لا يختلف اثنان على أن سنة 2023 أحدثت "ثورة" كبيرة في الجبهة الاجتماعية، من حيث تأكيد تكريس الطابع الاجتماعي للدولة، حيث كانت قرارات دعم القدرة الشرائية وتحسين منظومة الأجور وأيضا فتح باب التوظيف ورفع التجميد عن الترقية في كل قطاعات الوظيفة العمومية، وما نتج عنه من "تحرير" التدرج في مختلف الأسلاك للرتب، بعد حرمان دام حوالي عقد، "غزيرة" من قبل رئيس الجمهورية، حيث صبت تعليماته منذ بداية العام في هذا الاتجاه.
والبداية كانت بموافقة رئيس الجمهورية على رفع التجميد عن عمليات الترقية في الوظيفة العمومية، بالتحويل التلقائي للمناصب على مدى ثلاث سنوات، أي من 2023 إلى 2025، بمعدل 100 ألف ترقية في كل سنة، وهذا "لاستدراك التأخر المسجل منذ تسع سنوات"، حيث تشمل العملية أكثر من ربع مليون موظف، حسبما أعلن عنه الوزير الأول، في وقت سابق، في كل القطاعات والمؤسسات والإدارات العمومية.
29.6 مليار دينار لترقية أكثر من ربع مليون مستخدم بأمر من الرئيس
ويتعلق الأمر بالموظفين المستوفين لشرط الأقدمية إلى غاية 31 ديسمبر 2022، وقدر الأثر المالي لهذا الإجراء الذي يخص الترقية عن طريق الاختيار والامتحان المهني، بـ29.6 مليار دينار، على أن تعود عمليات الترقية في الوظيفة العمومية، حسبما أكده ذات المسؤول بحلول سنة 2026، إلى مسارها الطبيعي وفقا لمخططات الموارد البشرية، وبذلك سيكون بإمكان جميع مستخدمي القطاع العمومي الاستفادة من عمليات الترقية بكل أشكالها، والتدرج في مسارهم المهني وفق شهاداتهم وخبرتهم المهنية، بعد تسع سنوات من التجميد.
من جهتها، وفي خطوة استباقية، استنفرت مفتشيات الوظيفة العمومية عبر الوطن مصالحها بخصوص مختلف التدابير والإجراءات الأساسية، لتجسيد عمليات ترقية الموظفين في هذا الإطار بهدف تمكين الموظفين من التقدم في مسارهم المهني، بالانتقال إلى رتب أعلى وتدارك التأخيرات المتراكمة نتيجة قرار تجميد التوظيف والترقية منذ نهاية سنة 2014 في إطار ترشيد النفقات العمومية.
وتقرر في هذا الإطار، استثناء، تمكين كل الموظفين المستوفين للأقدمية المطلوبة للترقية، عن طريق الامتحان المهني أو الاختيار إلى غاية 31 ديسمبر 2022، من الحق في الترقية إلى الرتبة الأعلى، وفق الأحكام التنظيمية سارية المفعول، حيث يتم ذلك على مدى ثلاث سنوات، بداية بنسبة 40 في المائة، بعنوان سنتي 2023 و2024، و20 في المائة بعنوان 2025، من خلال توزيع تعداد الموظفين المعنيين بالعملية حسب كل سنة وكل رتبة وتبعا لنمطي الترقية، امتحان مهني أو ترقية اختيارية، على أن تتم مباشرة دون انتظار مدونة المناصب المالية أو المصادقة على المخططات السنوية لتسيير الموارد البشرية، وذلك قبل تاريخ 31 ديسمبر من كل سنة عن طريق التحويل التلقائي للمناصب المالية.
وتشمل الترقية التي أوشكت على نهايتها، في جل القطاعات، جميع الموظفين العاملين بمختلف القطاعات والمستوفين للشروط القانونية للترقية إلى غاية 31 ديسمبر 2022، سواء عن طريق الاختيار أو الامتحان المهني، مع ضرورة الحرص على مراعاة الوضعيات الخاصة للموظفين المعنيين الموقوفين تحفظيا، لتمكينهم من الحق في الترقية عند الاقتضاء وفق التنظيم المعمول به.
زيادات لفائدة الموظفين والمتعاقدين والمتقاعدين وحتى البطالين
وفي نفس السياق أيضا، تصب ترسانة القرارات التي أقرها رئيس الجمهورية، بهدف "مواءمة شبكة الأجور مع القدرة الشرائية أولا.. ثمّ مع الدعم المستمر للفئة الضعيفة اجتماعيا، وذلك بمراعاة قيمة العمل، ودفع عجلة الإنتاج، كمرجعين أساسيين لرفع الرواتب"، لفائدة الموظفين والمتعاقدين وأيضا المتقاعدين والبطالين، حيث عرفت أجور موظفي القطاع العمومي زيادات على مدى 2023 و2024، ليتراوح مستواها سنويا ما بين 4500 دينار إلى 8500 دينار.
وتم أيضا رفع الحد الأدنى لمنحة التقاعد إلى 15 ألف دينار، لمن كان يتقاضى أقل من 10 آلاف دينار وإلى 20 ألف دينار لأصحاب منحة 15 ألف دينار، لينسجم مع الحد الأدنى للأجور الذي عرف بدوره زيادة من 18 ألف إلى 20 ألف دينار منذ 2021.
وعرفت منحة البطالة، أيضا، زيادة من 13 ألف إلى 15 ألف دينار، إضافة إلى تكفل الدولة بأعباء التغطية الصحية لحوالي مليوني بطال، خلال فترة استفادتهم من المنحة.
وبلغة الأرقام، سيستفيد 95 في المائة من مستخدمي كل الإدارات والهيئات العمومية، بمن فيهم الإطارات العليا، من الزيادات في الأجور، بنسب متفاوتة، كما أن العدد الإجمالي للمستفيدين من قرار الرئيس تثمين الرواتب من موظفين ومتعاقدين ومتقاعدين، وأيضا أصحاب منحة البطالة، تجاوز 7.7 مليون مستفيد بأثر مالي بحوالي 700 مليار دينار، على مدى سنتي 2023 و2024، لتصل 900 مليار دينار، بإضافة الأثر الخاص بزيادات 2022.
قرار رئيس الجمهورية رفع الأجور لم يستثن أي فئة، بدليل أن المتعاقدين أيضا شملهم الإجراء، وهم يمثلون نسبة 10 في المائة من إجمالي 2.8 موظف في الإدارات والهيئات العمومية، ناهيك عن الثلاثة ملايين متقاعد، وبناء على ذلك، استفاد المتقاعدون الذين لم يكملوا 15 سنة خدمة فعليا من زيادات في منحهم، لتصل إلى 15 ألف دينار، مقابل ألفين إلى 4 آلاف دينار في معاش المتقاعدين الذين يتقاضون معاشا شهريا بعشرين ألف دينار أو أكثر.
وبلغة الأرقام، فإن الزيادات التي أقرها الرئيس تدريجيا، على مدى الثلاث سنوات الأخيرة، تعادل نسبة 47 إلى 50 في المائة، فيما تخضع الزيادات بالمقابل في القطاع الاقتصادي العمومي للاتفاقيات الجماعية مع الشريك الاجتماعي، حسب حجم نشاط المؤسسة.
قوانين أساسية بنكهة "السوسبانس"...
من جهتها، دخلت مصالح الوظيفة العمومية في سباق مع الزمن لتجسيد أوامر رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، الإفراج عن القوانين الأساسية للقطاعات الأكثر تمثيلية للموظفين والعمال، سيما التربية والتعليم العالي والصحة، على خلفية تعليماته التي حملت نبرة أكثر حدة واستياء، حيث حدد آجال للجان مراقبة مدى تنفيذ هذه القرارات، على أن تكون الاستعجالية منها على رأس الأولويات.
ومما لا شك فيه، فإن القوانين الأساسية تدخل في خانة "الاستعجالية"، حيث ستفتح آفاقا جديدة في المسار المهني للموظفين، وبالتالي تحسين أوضاعهم المهنية والمادية والاجتماعية، وما ينجر عنه من رفع قدرتهم الشرائية، مثلما ألح عليه الرئيس خلال كل مجالس الوزراء.
وكان آخرها أول أمس حينما أمر بمراجعة وإثراء وتوضيح مضامين هذه القوانين إجمالا وبشكل أعمق، على أن يتم الفصل فيها بداية من شهر فيفري المقبل، مع احتساب الأثر الرجعي للرواتب والعلاوات بدءا من شهر جانفي 2024.