ما نراه هذه الأيام على شاشات التليفزيون وعلى صفحات الإنترنت من بشاعة وهمجية العدو الصهيوني على أهلنا في غزة، صور تقشعر لها الأبدان، اعتداء على الآمنين من الأطفال والنساء والشيوخ، وتدمير للبنى التحتية من مساكن ومدارس ومستشفيات، هذه هي حرب العالم المتحضر، بينما لو قارنا بين ما يحدث في فلسطين من اعتداءات صارخة لقوانين الحروب الأممية وما جاء به الإسلام، لوجدنا الفرق شاسعا.
ما نشاهده اليوم في حرب الاحتلال الإسرائيلي على غزة، يضرب كل النظريات التي جاء بها الفكر الإنساني وكل التراكمات الحقوقية الإيجابية للمجتمع الدولي، والتي كرّست العديد من المواثيق والعهود الدولية لحقوق الإنسان وجعلت المنظمات والشعوب تناضل من أجل احترامها، حيث أن هذه الحرب التي تعتبر حربا ضد قيم التعايش والمقاومة المدنية التي تريد ترسيخ الهوية الوجودية للإنسان الفلسطيني الذي عانى من ويلات المجازر والتعذيب والاستعباد والتقتيل والاستيطان.
إن ديننا الإسلامي لم يترك الحرب هكذا دون قيود أو قانون، وإنما وضع لها ضوابط تحدّ مما يصاحبها، وبهذا جعل الحروب مضبوطة بالأخلاق ولا تسيّرها الشهوات، كما جعلها ضد الطغاة والمعتدين لا ضد البرآء والمسالمين. وفيما يلي أهم الآداب والقيود الأخلاقية في الإسلام:
-عدم قتل الأبرياء والآمنين العزّل، وعدم قتل الشيوخ والنساء والأطفال، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصي قادة الجند بالتقوى ومراقبة الله تعالى ليدفعهم إلى الالتزام بأخلاق الحروب، ومن ذلك أنه يأمرهم بتجنب قتل الولدان؛ فيروي بريدة فيقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمَّر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا، وكان مما يقوله:« ولا تقتلوا شيخا فانيا، ولا طفلا، ولا صغيرا، ولا امرأة”.
-عدم قتل المتعبّدين، فقد أخبر ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث جيوشه يقول لهم: “لا تقتلوا أصحاب الصوامع”. وكانت وصيته للجيش كما نقلها ابن عباس رضي الله عنهما: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيوشه قال: “اخرجوا باسم الله قاتلوا في سبيلِ الله من كفر بالله، ولا تعتدوا، ولا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا الوِلدان، ولا أصحاب الصوامعِ”.
-عدم الإفساد في الأرض، فلم تكن حروب المسلمين حروب تخريب كالحروب المعاصرة التي يحرص فيها المتقاتلون من غير المسلمين على إبادة مظاهر الحياة لدى خصومهم، بل كان المسلمون يحرصون أشدّ الحرص على الحفاظ على العمران في كل مكان، لو كان ببلاد أعدائهم، وظهر ذلك واضحا في كلمات أبي بكر الصديق رضي الله عنه عندما وصى جيوشه المتجهة إلى فتح الشام، وكان مما جاء فيها: “ولا تفسدوا في الأرض”، وهو شمول عظيم لكل أمر حميد. وجاء أيضا في وصيته: “ولا تغرقن نخلا ولا تحرقنها، ولا تعقروا بهيمة، ولا شجرة تثمر، ولا تهدموا بيعة”، وهذه تفصيلات توضح المقصود من وصية عدم الإفساد في الأرض؛ لكيلا يظن قائد الجيش أن عداوة القوم تبيح بعض صور الفساد؛ فالفساد بشتى صوره أمر مرفوض في الإسلام.
وهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه وهو خليفة الرسول صلى الله عليه وسلم وقف في جيش أسامة خطيبا فقال: “أيها الناس، أوصيكم بعشر فاحفظوها عني: لا تخونوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلا صغيرا ولا شيخا كبيرا ولا امرأة، ولا تعقروا نخلا ولا تحرقوه ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرا إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له وسوف تقدمون على قوم يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام، فإذا أكلتم شيئا بعد الشيء فاذكروا اسم الله عليه، وتلقون أقواما قد فحصوا أوساط رؤوسهم وتركوا حولها مثل العصائب فأخفقوهم بالسيف خفقا.. اندفعوا باسم الله”.
لم تكن حروب المسلِمين حروب استعمار، أو استنزاف، أو اعتداء، أو استيطان، أو تدمير شامل، كما قد يتبدى لبعض قاصري الفهم، بل كانت بشارة بدين الإسلام، دين الفضيلة والعدل، دين التسامح والرحمة، هذه الخصال التي لا مناص للناس من أن يقبلوها ويفرحوا بها.
وكانت غزوات النبي صلى الله عليه وسلم رحمة للأمة، وسكينة لها، تعلّم منها العالم أن الحرب لا تقصد لذاتِها، استعمارا واستضعافا، وإنما عند الضرورة، ولمصلحة عظمى؛ قال تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين}.
وقد عبّر عن هذا الهدف رِبعي بن عامر حين سأله رستم: “ما جاء بكم؟”، قال: “الله جاء بِنا، وهو بعثنا لنخرج من شاء من عبادة من ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام”.