+ -

وقفت الجزائر ضد "الأجندات" الأجنبية في منطقة الساحل، وأعلنت ذلك صراحة أكثر من مرة، لأنها ترى بحكم الخبرة الدبلوماسية أن حلول الأزمات تتعقد أكثر في ظل تواجد خيوط تلك التدخلات الخارجية والأجنبية عن المنطقة، لكن ما يظهر على سلوكات السلطة الحاكمة في باماكو من ممارسات يقول إنها بصدد "عض" اليد الممدودة لها، من خلال اللعب على حبلين، اعتقادا منها أن ذلك سيدفع الجزائر إلى تغيير ثوابتها وعلاقاتها بأطراف المنطقة.

لم يسبق أن تراجع الحل السياسي في مالي لفائدة الخيار العسكري، منذ التوقيع على اتفاق الجزائر للسلم والمصالحة في شمال مالي، مثلما هو جارٍ حاليا، رغم أن نفس الحل العسكري جُرب سابقا وأدى إلى طريق مسدود، لسبب بسيط أنه مادام الأزمة سياسية فأي خيار آخر غير الحل السياسي مآله ليس الفشل فقط، وإنما زيادة في تعقيد وتعفين الأزمة، لأن الثقة التي تشكلت بين الأطراف الموقعة على اتفاق الجزائر للسلم والمصالحة في مالي يجري وأدها مع سبق الإصرار، رغم أنها حجر الزاوية، بسبب إجراءات انفرادية للحكومة المالية التي تعتقد أنها من خلال فرض منطق القوة على حساب قوة المنطق، وفرض الإقصاء، ستثبت أركانها وتبسط سلطة قرارها وستخضع خصومها للأمر الواقع.

لكن الحاصل، حسب المراقبين، أن ذلك يعتبر تنصلا من التزاماتها في اتفاق السلم والمصالحة، ومحاولة للعزف المنفرد وإدارة الظهر لكل الجهود التي بذلت من قبل الوساطة لإعادة الاستقرار ووقف صوت العنف في شمال مالي. وكان يمكن تفهم بعض الإجراءات العسكرية التي بادرت بها السلطة العسكرية في باماكو، في سياق محاولة بسط نفوذها الإداري ورفع أسهمها لدى الناخبين تحسبا للمواعيد الانتخابية القادمة المبرمجة لإنهاء المرحلة الانتقالية، لكن كان بالإمكان القيام بها بسلاسة وعن طريق مد جسور الحوار، بعيدا عن سياسة لي الذراع أو إدارة الظهر للشركاء والأطراف في الداخل، وأيضا حتى للمراقبين والوسطاء، وهي رسالة سلبية خلقت مناخا عدائيا جديدا للأزمة في داخل مالي ومع محيطها في الجوار، ليس من السهل إزالة سحابته.

وبالنتيجة، تقوم السلطة في مالي بـ "عض" اليد التي ظلت ممدودة لها من الجزائر لعقود من الزمن، من جهةٍ بضرب ما تم تحقيقه من تقدم في بنود اتفاق السلم والمصالحة الموقع عام 2015، ومن جهة ثانية بالسعي أيضا لإحراج الجزائر كراعية للوساطة أمام بقية الأطراف المالية الأخرى الموقعة على الاتفاق من الحركات الأزوادية، بنية هز ثقتها في هذا الوسيط الذي وقف دوما ضد التدخلات الأجنبية الرامية إلى "صوملة" أو "أفغنة" المنطقة.

قد يكون هناك دفع خارجي من أجل "التشويش" لإحداث الفتنة في المنطقة بين هذا وذاك، فلا يوجد أدنى شك في ذلك ومنذ مدة طويلة، وما اغتيال الدبلوماسي الجزائري في غاو سوى أحد شواهده البارزة، وقد تكون مالي قد سلمت أذنها كليا للاستماع إلى أحلام وردية ووعود بالتنفس من جهة المحيط الأطلسي، فهو أيضا في حكم اليقين، لكنه هواء قد يحسبه الظمآن ماءً، لأنه تكبيل إضافي للسيادة الوطنية التي تقول السلطة في مالي في خطاباتها إنها تسعى لتثبيتها على كامل ترابها.

إن ابتعاد السلطة في مالي عن الحل السياسي مرحليا قد يمكن تداركه، لكن سعيها إلى "شيطنته" كحل، وخلق عداوة مفتعلة من لا شيء مع الجزائر المقتنعة حد النخاع بأن المخرج من الأزمة يمر حتما عبر الحوار مع الجميع دون أي إقصاء لأي جهة، وضمن مقاربة سياسية واقتصادية تنموية وليس العسكرية، اعتقادا من حكومة باماكو بأن توجهها هذا سيخرج أزمتها من عنق الزجاجة، فهو سلوك يصدق عليه المثل "جيت نحفرلو في قبر أمه هربلي بالفاس"، فترحيل الأزمة من إطارها المعتمد لا يعني سوى تفويت فرصة حلها وزيادة تعقيدها.. والأيام ستثبت ذلك.

 

كلمات دلالية: