بحكم الروابط الجغرافية والاجتماعية، حرصت الجزائر تاريخيا على أن تكون وسيطا أساسيا في كافة النزاعات التي شهدتها دولة مالي، ونجحت بحكم حيادها وعلاقاتها الجيدة مع جميع أطراف النزاع في التوصل إلى اتفاق سلم ومصالحة عام 2015، كان يفترض أن يشكل خارطة طريق تجنّب الجزائر أي تدخل أجنبي ودولي على حدودها الجنوبية، أو خلق بؤر توتر جديدة.
وعقب الانقلاب العسكري عام 2012، دعت الجزائر الماليين إلى العودة للشرعية الدستورية، وتدخلت لإخماد النزاع القائم ومحاولة إيجاد حل باعتبار أنها معنية مباشرة، فتوارق الجزائر تربطهم علاقة مصاهرة قوية مع توارق مالي، وهو عامل يزيد من قوة الجزائر. ولمنع امتداد النزاع إلى أراضيها أو تدخل أطراف أخرى، اعتمدت الجزائر وساطة دفاعية سعت بالأساس لوقف إطلاق النار، وركزت على الوحدة الترابية لمالي، وعدم استغلال مطالب الحركات المتمردة من أجل تفتيت الوحدة الترابية، حيث إن هاجس انفصال الحركات التارقية في شمال مالي يشكل خطرا على مصالح الجزائر.
وبعد ضمانها التزام الحكومة المالية والحركات المتمردة في الشمال بوقف إطلاق النار، وإقناعهم بالوحدة الترابية لمالي، انتقلت الجزائر لمرحلة الوساطة، واشتغلت على تقريب الرؤى بين مطالب الحركات المتمردة التي تباينت بين المطالبة بالاستقلال التام والاستقلال الجهوي وتنمية المناطق الشمالية والمشاركة في الحكومة، وذلك من خلال اقتراح أرضية عمل قبل البدء في المفاوضات، وهي الأرضية التي قبلتها الحركات المتمردة ووقعت عليها في جوان 2014.
واستعملت الجزائر عبر مراحل وساطتها العديد من الوظائف والاستراتيجيات، فلجأت إلى وظيفة الإعلام لتقديم المعلومات اللازمة للأطراف المتنازعة التي لا تتواصل مع بعضها، ووظيفة التشكيل سواء من خلال إعادة صياغة مطالب الحركات التارقية أو العناصر التي لم يتفق عليها الطرفان.
ومن جانب الاستراتيجيات، لجأت الجزائر لتنظيم لقاءات منفردة مع كل على حدة، نتيجة المشاعر المشحونة في المرحلة الأولى، ثم استراتيجية التعرف على المشاكل الرئيسة خلال اللقاءات الجماعية أو المنفردة، إضافة لاستراتيجية تسهيل الاتصال بين الطرفين لتجاوز ولتحجيم القلق والغضب المترتب عن النزاع.
ونظرا لخصوصية النزاع وتأثيراته المحتملة، كان لزاما على الجزائر أن تظهر حيادها وعدم انحيازها لأي طرف لكسب ثقته الجميع، وكانت الجزائر بالأساس وسيطا ذا سمعة طبية نظرا لنجاح وساطتها السابقة في مالي (أزمات 1963، 1976، 1990، 1991، 2006)، فقبل بها جميع أطراف النزاع، حتى أنها كانت مطلوبة من قبلهم. وبعد اكتمال جميع مراحلها، أدت الوساطة التي توسعت لأطراف أخرى (5 دول إفريقية، و5 منظمات دولية وإقليمية، إضافة لملاحظين من الولايات المتحدة وفرنسا) إلى التوصل لاتفاق في 5 جوان 2015 وقعته أطراف الحوار المالية، إلى جانب وثيقة تنص على الترتيبات الأمنية بشمال مالي.
ومن أبرز ما جاء في نص الاتفاق الذي تضمن 68 مادة: "عودة السلام لشمال مالي، والتوافق على ضرورة إعادة التنمية في الشمال بمساعدة أطراف الوساطة الدولية، وإدماج الراغبين من الحركات المتمردة في جيش مالي".
وتراهن الجزائر على استمرار هذا الاتفاق بحكم توليها قيادة الوساطة الدولية ورئاسة لجنة متابعة تنفيذ اتفاق السلم والمصالحة في مالي، لذلك فهي تسعى بشكل متواصل إلى ترصينه والتأكيد عليه حتى يتم تجسيد أبرز مضامينه على أرض الواقع.
مشاريع تنموية
وشددت الجزائر في كل فرصة على دور المقاربة التنموية في تعزيز السلام بمالي، ومن هذا المنطلق قدمت سلسلة مشاريع تنموية وخدمية مساعدة للسكان المحليين في مناطق كيدال وشمال مالي، تتكفل بها الوكالة الجزائرية للتعاون الدولي من أجل التضامن والتنمية، ضمن مشروع مساعدات قررها الرئيس عبد المجيد تبون لصالح مالي وعدد من الدول الإفريقية، بقيمة إجمالية بلغت مليار دولار أميركي، كما أكد الرئيس في وقت سابق أن الأموال التي يدفعها المجلس العسكري مقابل خدمات مجموعة "فاغنر" الروسية الخاصّة ستكون "أكثر فائدة" إذا تم استثمارها في مشاريع اقتصادية.
ومن جانب آخر، تتمسك الجزائر بسيادة مالي وبوحدتها الوطنية وسلامة أراضيها، إضافة إلى قناعتها العميقة بأن السبل السلمية هي وحدها الكفيلة بضمان السلم والأمن والاستقرار. ونتيجةً لهذين المبدأين، ترى الجزائر أن المصالحة الوطنية تظل الوسيلة المثلى التي من شأنها تمكين دولة مالي من الانخراط في مسار شامل وجامع لكل أبنائها، يضمن ترسيخ سيادة مالي ووحدتها الوطنية.
ومن هذا المنطلق، كثفت الجزائر في الفترة الأخيرة تواصلها مع أطراف النزاع، وسط اضطراب أمني متصاعد بين تنسيقية الأزواد والحكومة الانتقالية، حول المناطق التي تركتها القوى الدولية لحفظ السلام بعد انسحابها من البلاد، وتسعى الجزائر للضغط بكل ثقلها من أجل تقييد أطراف النزاع باتفاق السلم، حيث عبرت وزارة الخارجية الشهر الماضي عن قناعتها بأن تنفيذ الاتفاق بحسن نية، مع توافر "الإرادة السياسية"، هو السبيل الوحيد لتمكين مالي من "بناء جبهة داخلية قادرة على مقاومة الاعتداءات التي يتعرض لها البلد والمنطقة بأسرها من قبل الإرهاب".
وتؤكد الجزائر في كل مناسبة استعدادها لتكثيف مساعيها الرامية لاستعادة وتعزيز الثقة بين الأطراف المالية، ومرافقتها نحو بلورة التوافقات الضرورية للمضي قدما في تجسيد مضامين الاتفاق على أرض الواقع، بما يحفظ وحدة البلاد وشعبها.