لقد وصلت رسالة الرئيس الفرنسي الأسبق متأخرة كثيرا عن موعدها وظرفها.. لا في التوقيت العالمي الذي ضُبطت عقارب ساعته على توقيت السابع أكتوبر، ولا في الظرف العالمي الذي تشهد فيه شعوب المعمورة بداية انهيار الهيمنة الغربية على مقدرات الشعوب ومصائرهم.
بزيارة ساركوزي إلى الرباط قبل أيام، وتغريده خارج السرب وهو يعرض كتابه الجديد "زمن المعارك" أمام مولعين بفكره الاستعماري، يبدو أنه نسي بأن أنظار الأحرار على هذا الكوكب مشدودة إلى عاصمة المعارك، قطاع غزة في فلسطين المحتلة، وأن معركة البقاء الحقيقية اندلعت ولن تنطفئ إلا بعد تحقيق أهدافها كاملة، وهي تحرير الأرض والإنسان، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وفق الإرادة الشعبية الفلسطينية، وليس مقررات وقرارات المستعمر.
كلام ساركوزي الباحث عن منصة يعود من خلالها إلى الساحة الإعلامية المنشغلة منذ أكثر من شهرين بما يجري في غزة، من صمود وبطولات نادرة قلبت موازين العلاقات الدولية ومهدت الانحدار للاستعمار الجديد، لم يخرج عن الأغنية القديمة التي ظل يدورها في أسطوانة مشروخة، أمام مدعوّين مسلوبي الهوية والقرار في مملكة المخزن المتهالكة.
لقد أبانت مواقف هذا الرجل الذي اعتادت محاكم باريس عليه منذ مغادرته قصر الإليزي في 2012 من الباب الضيق، بسبب فضائح الرشاوى والابتزاز التي فضحتها وسائل الإعلام الفرنسية ولن يتمكن من محو عارها، فكيف لمثله أن يحاضر في الحريات والديمقراطيات والحكمة والرشاد الغائب في أرض لا تزال محتلة وتلعب دور وكيل الحرب في الصحراء الغربية التي تشق طريقها نحو الاستقلال بخطوات ثابتة وبلا تراجع.
وإن كان ما قاله ساركوزي لا يرقى لأن يكون بين دفتي كتاب، ولا بقيمة الورق والحبر المستعمل في طباعته، إلا أنه كلام على المقاس، ومدفوع الأجر مسبقا من طرف البلاط المخزني، بعبارة أخرى "كتاب تحت الطلب" وفق مبدأ "ادفع واحصل على ما تريد على المقاس".
وبكلامه الذي يلقى رواجا في أوساط تياره المتهاوي في فرنسا، والمنبهرين بثقافة القلم المأجور، يتناسى ساركوزي ومن على شاكلته بأنه لا توجد رقعة أو بقعة على هذا الكوكب عمّر فيها الاستعمار والاستيطان، فما ضاع وراءه طالب، ولكم في الجزائر أبلغ دليل وبرهان.. 132 سنة من الهيمنة الفرنسية، وسجل حافل بالقتل والحرق والاغتصاب والتهجير والتشريد والاستعباد.. وكانت النتيجة الحرية الغالية التي لم يعرف المخزن طعمها كونه نتاج انتداب، ولولا الثورة الجزائرية ما تحرر شكليا من الاستعمار الذي لا يزال يرزح تحته إلى اليوم.. وهذا الكلام يقوله الشرفاء في المغرب من أحفاد الخطابي في الريف الثائر، ومن سار على فكرهم وخطاهم من المغربيين التواقين للحرية والعيش في كنف العزة والكرامة.
ولعل أبرز دليل على قصور النظر ونقصان العقل، ترديد ساركوزي كلامه غير المؤسس، الذي تكذبه أطنان القرارات الأممية والمواثيق الدولية وتصنيفات الصحراء الغربية ضمن إطار قضايا تصفية الاستعمار في العالم، وليتأكد من ذلك ما عليه سوى الرجوع إلى التاريخ والتمعن فيه بموضوعية وبتجرد من ثقافة النكران والجحود المدفوع بالمقابل المالي.
كما أنه لا يمكن تجاهل كيف أن تكون للمغرب أحقية في أراضي الصحراويين، بينما تخضع مقاطعتان كاملتان هما سبتة ومليلية للسيادة الإسبانية!
وهل يعلم ساركوزي بأن نفس هذا النظام التوسعي الاستيطاني، تلميذ الحركة الصهيونية المنبوذة عالميا، وتحديدا أوروبيا، مارس التضليل ضد جيرانه، بحيث لم تسلم منه الجزائر حتى وهي حديثة الاستقلال، ممارِسا الغدر في حرب الرمال، وكيف زحف محاولا احتلال موريتانيا، بنفس المنطق التوسعي الاستعماري!
لدى عرضه كتابه الذي يعاني الكساد في موطنه الأم، يزعم بهتانا وكذبا أنه "لا يوجد سوى حل واحد ذي مصداقية للنزاع حول الصحراء الغربية، وهو الحل الذي تقدم به المغرب"، وهي عبارة تكفي لفتح تحقيق في الذمة المالية لهذا الرجل الذي وقع في شر أعماله بابتزازه العقيد الليبي الراحل معمر القذافي، وقاد في سبيل التخلص منه، ومن الأسرار التي يخشى انكشافها، حربا لا تزال مستعرة يدفع الليبيون ثمنها الباهظ، لأنهم صدقوا كذبة الديمقراطية من عرابي التقسيم والاستعمار الجديد.
وزاد ساركوزي "متبجحا" أن "فرنسا كانت في عهده في الطليعة في ما يتعلق بقضية الصحراء.. ولطالما اعتبرت أنه لا يوجد سوى حل واحد ذي مصداقية، وهو الحل الذي تقدم به المغرب"، وهذا صحيح لأن الانحراف الحقيقي بدأ عندما جاء هذا الرجل إلى الحكم خلفا لجاك شيراك، آخر جهابذة السياسة الفرنسين.
وتحدث ساركوزي بأن "المغرب تمكن من بناء اقتصاد مرن واستقرار مستدام، مع التموقع كدولة مؤثرة على المستوى القاري"، لكنه لم يقدم أي تبرير للحالة الاجتماعية المزرية التي يعيشها الشعب المغربي، أو استدلال بأرقام وإحصائيات ذات مصداقية!
كان بإمكان ساركوزي أن يكون صادقا ومخلصا في كلامه تجاه المخزن لو أضاف عبارة: "الوقائع التي أتحدث عنها أمامكم من نسج الخيال، والحقيقة الصادقة هي عكس ذلك تماما"، ونجدها في مظاهرات المغربيين في المدن المغربية الرافضة لسياسات التطبيع والاستغلال الغربي والصهيوني لخيراتهم، والمطالبين بتقرير مصيرهم.. شيء لم يشاهده ساركوزي لأنه بعيد كل البعد عن النخوة والأنفة والصدق.