محمد بن أبي بكر المشهور بابن القيم، صاحب المؤلفات النافعة في شتى الفنون، ومن بينها كتاب ماتع، أبدع فيه فسماه: “بدائع الفوائد”، ذكر فيه ما يعتري النفس البشرية من أخلاق رديئة، فقال رحمه الله: “وفي النفس كبر إبليس، وحسد قابيل، وعتو عاد، وطغيان ثمود، وجرأة النمرود، واستطالة فرعون، وبغي قارون، وجهل أبي جهل. وفيها من أخلاق البهائم: حرص الغراب، وشره الكلب، ودناءة الجعل، وعقوق الضب، وحقد الجمل، ووثوب الفهد، وصولة الأسد، وفسق الفأرة، ومكر الثعلب”. فالنفس البشرية عالم عجيب، والعبد حري به أن يراقبها شديد المراقبة وإلا أدرته المهالك، ويعتريها الكثير من الأمراض مما ذكر ابن القيم رحمه الله، وسنركز بالشرح على البعض مما ورد في كلامه.
فمن الأمراض الخطيرة التي تمنع سلامة القلب الشرك عياذا بالله، وهو تعلق القلب بغير ربه: {إن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}، وفي الصحيح: “أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه”، فالمسلم مطالَب بتجريد التوحيد لله؛ بحيث لا يرجو إلا الله، ولا يخاف إلا منه، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يدعو غيره، ولا يذل إلا له، ولا يطمئن إلا به، ولا يسكن إلا إليه.
ومما يعتري القلب من عاهات أيضا الكِبر، وقد عرفه المعصوم بأنه رد الحق واحتقار الناس، فعند مسلم: “لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر”، قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة، قال: “إن الله جميل يحب الجمال؛ الكبر بطر الحق وغمط الناس”، وهذا الخلق الرديء أول من تجلبب به إبليس اللعين: {ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين}.
ومن أمراض القلوب الحِقد، وهو مرض خطير وشر مستطير، قلّ من يسلم منه: “لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تناجشوا وكونوا عباد الله إخوانا”، فصاحب الحقد والغلّ في عذاب دائم، لا يذوق معه طعم السعادة والإيمان، وقد جعل الله تعالى من نعيم الجنة زوال ما في صدورهم من غلّ لما يسبّبه من النكد، والغم. والمأمول مجاهدة النفس للعفو عمن ظلم أو اغتاب أو آذى، فالعاقل مشغول بزرع الحسنات ليحصدها يوم القيامة، فإذا انشغل بغير ذلك تسبب في تقليل زرعه أو إفساده، وهذا لا يتنافى مع تأديب من تمادى في غيّه، فلا بد رد عدوان الظالم.
ومما يعتري القلب من أمراض الحسد، وهو تمني زوال نعم أنعم الله بها على عباده، وينشأ هذا الخلق الذميم بسبب الإحساس الداخلي بضعف الإنسان وعدم قدرته على تحقيق ما يريده ويطمح إليه، وغالبا ما يحسد الأشخاص على المناصب، وما يمتلكون من ثروات، ما يجعل نفس الحاسد تولد حقدا كبيرا ودناءة في طبيعته، وأول من يكتوي بنار الحسد صاحبه، فلله در الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله، وفي السنة: “إياكم والحسد، فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب”.
ومن أمراض القلب حب الزعامة والتنافس على المسؤولية، وهي شهوة خفية، قلّ من يتنزه عنها، قال الإمام الثوري رحمه الله: (حب الرياسة أعجب إلى الرجل من الذهب والفضة)، والشارع الحكيم نهى عن طلبها، ففي الصحيح عن عبد الرحمن بن سمرة قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يا عبد الرحمن بن سمرة، لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها، وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها، فكفّر عن يمينك وائت الذي هو خير”. يقول ابن القيم: (ولا تنس ذنب إبليس، فسببه حب الرياسة التي محبتها شر من محبة الدنيا، وبسببها كفر فرعون وهامان وجنودهما، وأبو جهل وقومه، واليهود).
فالتساهل في إصلاح القلب يصيب صاحبه في مقتل، ويتحول القلب إلى وعاء جامع للخبائث، حاو لكل شر، خال من كل خير، وستظهر هذه الأمراض الخبيثة في تصرفات صاحبها، أقوالا وأفعالا: {أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم}. نسأله تعالى أن نكون في زمرة من قال فيهم: {يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم}، مقتدين بخليل الله إبراهيم: {وإن من شيعته لإبراهيم إذ جاء ربه بقلب سليم}.
* إمام وأستاذ بجامعة العلوم الإسلامية – الجزائر1