إن الحديث الشريف وحي لا يخفى هذا على عاقل، ولا يشك في هذا ذو علم ولبّ: {وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى}، ويبقى بعد ذلك تعامل المسلمين مع الحديث، هل هو تعامل واعٍ على أسس علمية ومنهجية سليمة أم لا؟.
إن في الحديث الشريف ما يعرف بأحاديث الفتن والملاحم، وهي أحاديث يخبر فيها الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم بأمور تاريخية تحدث بمرور الزمان إلى آخر الزمان بما فيها أشراط الساعة وعلاماتها، وقد اهتم بها كثير من المسلمين اهتماما بالغا، انجر إلى التفسيرات العجائبية والخرافية في بعض الأحيان، ووقف عند ظواهر النصوص في بعض الأحيان، واكتفى بالشرح السطحيِ في أحيان أخر، لكن كل ذلك يعوزه الفهم السليم، والرؤية السديدة، والفقه السنني، الذي يفهم هذه الأحاديث في ضوء سنن الله تعالى التي تحكم خلقه: {فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لِسُنت الله تحويلا}، ولو اجتهدنا بجد ووعي في فقه هذه الأحاديث الشريفة فقها سننيا راشدا؛ لفقهنا سير الحياة، وأمكننا استشراف مساراتها، وتلافي كثير من سقطاتنا الحضارية.
ولنأخذ الأحاديث الواردة في شأن الروم، (= بنو الأصفر، الجنس الأبيض، الغرب الأشقر، العنصري) نموذجا، ونستخلص منها بعض المعاني الحضارية في ضوء سنن الله تعالى. والذي يدعونا لذلك زيادة على ورود هذه الأحاديث أننا نجد في القرآن العظيم: سورة الروم، في الوقت الذي لا نجد: سورة الفرس أو الهند أو الترك أو غيرهم من الأمم العظيمة مثلا، بل إننا لا نجد سورة العرب حتى، وهم قوم النبي صلى الله عليه وسلم ومن نزلت عليهم الرسالة الخاتمة، ألا يدل هذا على شيء؟، أليس في هذا إيماء إلى ضرورة الاهتمام بالروم كونهم الأقوام الذين سيصارعوننا على مدى القرون، ولكننا غفلنا عنه لقرون!. وقد صح حديث مرسل عن ابن محيريز قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “فارس نطحة أو نطحتان، ثم لا فارس بعد هذا أبدا. والروم ذات القرون كلما هلك قرن خلفه قرن” رواه الحارث وابن أبي شيبة وغيرهما. وهو حديث هام يقرر حقيقة تاريخية، مفادها: أن الإمبراطورية الفارسية إذا سقطت عاصمتها انتهت وانتهى الصراع معها، وأسلمت وصارت جزءا من أمة الإسلام، وقد كان ذلك. ولكن الإمبراطورية الرومانية مسارها التاريخي مختلف، حيث أنها كلما سقطت دولتها وعاصمتها في جهة ما قامت عاصمة أخرى، تحمل لواءها وتواصل حربها وعداءها وصراعها مع أمة الإسلام، وها نحن في القرون الأخيرة رأينا كيف انتقل ثقل الروم (الغرب) وقيادتهم من دولة إلى دولة من إسبانيا والبرتغال إلى فرنسا وبريطانيا، إلى موسكو وواشنطن، ثم أوربا الموحدة والولايات المتحدة، وهكذا كلما هلك قرن قام قرن. ولو فقهنا هذا جيدا لما اشتغلنا بأدبيات: سقوط أمريكا وسقوط الحضارة الغربية المادية العنصرية، ولاشتغلنا بدل ذلك بفهم حقيقة حضارتها المدمرة للفطرة البشرية، المعادية للجبلة الإنسانية، وفهم أبعاد شذوذها في النظرة إلى الإنسان والحياة من السياسة الدولية إلى الشذوذ الجنسي المخزي، ولاهتممنا أكثر بتقوية أنفسنا وبناء نموذجنا الحضاري المتميز سقطوا أم لم يسقطوا.
وهذا حديث آخر هام عن الروم (الغرب العنصري) عن المستورد ابنِ شداد رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “أشد الناس عليكم الروم، وإنما هلكتُهم مع الساعة” رواه أحمد. قال الإمام الصنعاني رحمه الله في شرحه: ”أشد الناس عليكم”: أشدهم حربا وجلادا وتألبا عليكم، وهو خطاب لأهل الإسلام، “الروم”: وهو من أعلام النبوة فإنهم من عصر النبوة إلى هذا العصر (القرن الثاني عشر) يجالدون أهل الإِسلام ويحاربونهم، “وإنما هلكتهم”: هلاكهم، “مع”: قيام “الساعة”: فيه تحذير منهم، وإرشاد إلى الاستعداد لهم، وإبانة أنه لا هلاك لهم إلا مع قيام الساعة”. وها نحن في القرن 15هـ/21م وما يزالون يقاتلوننا ويحاربوننا، وسيبقون حتى تكون هلكتهم في آخر الزمان. ولو قرأ المسلمون هذا الحديث وفقهوه سننيًا لاهتموا للروم وأوضاعهم وتابعوها متابعة دقيقة، ودرسوا أحوالهم وأمورهم دقيقها وجليلها حتى لا يُبْغَتُوا بأي شيء من قبلهم، وربما كانوا تلافوا الهجمة الاستعمارية في القرون السوالف.
إن هذه الأحاديث وما يستنبط منها ليست تحاملا على الروم (الغرب) وإنما هو تقرير لسيرورة تاريخية عليها ألف شاهد وشاهد؛ ولذلك نجد رواة الحديث لا يتحامون ذكر مناقب الروم إذا كانت حقيقة ثابتة، فنجد في صحيح مسلم عن المستورد بن شداد القرشي أنه قال عند عمرو بن العاص رضي الله عنهما: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “تقوم الساعة والروم أكثر الناس”، فقال له عمرو: أبصر ما تقول؟ قال: أقول ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عمرو: لئن قلت ذلك إن فيهم لخصالا أربعا: إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرّة بعد فرّة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة: حسنة جميلة، وأمنعهم من ظلم الملوك. وهذه شهادة كبيرة من عمرو بن العاص رضي الله عنه وهو من هو دهاء وحزما، ينوه فيها بهذه الفضائل التي يتمتع به الروم، والتي يؤكدها الواقع المعاصر، ولكن بنسب متفاوتة. أما قول النبي صلى الله عليه وسلم: “تقوم الساعة والروم أكثر الناس”، فقد علق عليه الإمام المُناوي رحمه الله قائلا: “وهذا عَلَم من أعلام نبوته، وهو غلبة الروم على أقطار الأرض شرقا وغربا ما بين مسلم وكافر”. أي أنه إشارة لحركة (الاستعمار) الأوربي للقارات الأخرى وما صحب ذلك من فظائع، وجرائم بشعة، ووحشية شاذة كانت نهايتها المقتلة الرهيبة للأبرياء في الحرب العالمية الثانية، حتى استوطنوا أغلب أقطار الأرض وما يزالون بعد أن ابادوا أمما وأقواما مستمتعين متلذذين، بل ها هم يستمتعون بإبادة إخواننا في غزة، فما الكيان الصهيوني إلا مستعمرة غريبة استغلت اليهود واليهودية لتحقيق المشاريع الغربية من خلال الصهيونية، وهل يخفى على العاقل أن الصهاينة الذي يدنّسون الأرض المباركة لا يمتون بصلة لبني إسرائيل، بل هم مهاجرون غربيون من مختلف الأقطار الأوروبية، وأكثرهم ملحدون يستغلون غباء وحمق المتعصبين من الطوائف اليهودية المتطرفة، ويمارسون هوايات الغربيين: الاستعمار، الاستيطان، التدمير، التقتيل، الاستغلال، الإبادة الجماعية.. إلخ، هذه حقيقة كالشمس في رائعة النهار!.
إن القسام ومن معهم من المجاهدين الأحرار إنما يقاومون الروم الغربيين، وإن إخواننا من الأبرياء الأطهار في غزة إنما يواجهون آلة الروم الغربيين الهمجية، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: “أشد الناس عليكم الروم”. ومتى نرتفع في فقه الحديث إلى الفقه السّنني الحضاري، ونخرج من هوة المشاغبات الجدلية حول الجزئيات الخلافية التي لا تنتهي؟!.
*إمام وأستاذ الشريعة بالمدرسة العليا للأساتذة