إن جلب المصالح ودرء المفاسد لم يكن أمرا خاصا بأمة الإسلام فحسب، بل كان هو الوصف الأعظم والأساس المتين الذي قامت عليه الشرائع السماوية السابقة، فهذا شعيب عليه السلام يقول: {إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله}، وهذا موسى عليه السلام يحث أخاه هارون على جلب الصلاح وتجنب سبيل الفساد، وذلك عندما طلب منه أن يخلفه في قومه: {وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين}.
وأبعد من هذا، إن الله سبحانه وتعالى ربط مقدار السعادة الدنيوية التي يكسبها الإنسان في حياته، وقوة الجزاء الحسن الذي يلقاه في آخرته، بقدر الصلاح الذي يجلبه الشخص تحت راية الإيمان أثناء وجوده الدنيوي، حيث قال تعالى في ذلك: {من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم بأحسن ما كانوا يعملون}، بينما نجده سبحانه وتعالى يصف الذين يصدّون عن أسباب جلب الخير والصلاح إلى أسباب الشر والفساد كالذي بدل نعمة الله كفرا، وهذا نتيجته البوار، حيث قال تعالى: {ألم تر إلى الذين بدّلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار}. وقال تعالى في هذا السياق: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون}. إن هذه الآية جمعت في مضمونها أسباب المصالح الواجب جلبها، وأسباب المفاسد الواجب دفعها، وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه في هذا الشأن: هذه أجمع آية في القرآن لخير يمتثل ولشر يجتنب، ومن ثم فهي لم تقتصر على الجانب التكليفي فقط، بل امتدت إلى أبعد من ذلك لتشمل الجانب الأخلاقي والآداب التي ترسخ إرادة تحقيق المصالح، وتقوّي عزيمة قطع المفاسد، ومن هنا قال الرزي: جمع في هذه الآية ما يتصل بالتكاليف فرضا ونفلا، وما يتصل بالأخلاق والآداب عموما وخصوصا.
إن أعظم مصلحة أمر بتحقيقها في هذه الآية التزام المكلف في جميع تصرفاته بالتوسط والإنصاف، سواء كان جالبا لمصلحة أو دافعا لمفسدة، وهو ما ذهب إليه جمهور المفسرين، لأن الإفراط في أحدهما هو التفريط في الآخر، طرفان ينتهي كل واحد منهما إلى ما هو فساد من جهة الخصوص والعموم، ولذا بدأت الآية بقوله تعالى: {إن الله يأمر بالعدل} الذي حقيقته المعادلة والموازنة بين شيئين؛ أي التزام التوسط بينهما، إلا أن ابن العربي يعطي لكلمة العدل الواردة في هذه الآية معنى أبعد مما سبق ذكره فيقول: العدل بين العبد وبين ربه إيثار حقه تعالى على حظ نفسه وتقديم رضاه على هواه، والاجتناب للزواجر والامتثال للأوامر، وما هو في النهاية إلا إقبال على المصالح المطلوبة شرعا، واجتناب المفاسد المدفوعة شرعا.
إن عمل الناس في الدعوة يجب أن يكون متجها إلى الإصلاح وقطع الفساد وأسبابه، وهو المنهج والمقصد الذي جاءت من أجله الشريعة، فمبناها على جلب المصالح ودرء المفاسد حيثما وجدت، قال ابن تيمية: لقد روعي في وضع الشريعة جهة العبد، فمن ثم جاءت الشريعة بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها. وقال ابن ناصر السعدي: هذا الأصل شامل لجميع الشريعة لا يشذ عنه شيء من أحكامها، لا فرق بين ما تعلق بالأصول أو بالفروع وما تعلق بحقوق الله وبحقوق عباده.
وبناء عليه، فإن الخطاب الإسلامي المعاصر بصوره المتعدّدة المقروءة والمسموعة والمرئية، واتجاهاته المتنوعة؛ الوسطي المعتدل، والصوفي المغرق في الباطنية، والسلفي النصي المغرق في الظاهرية، والتكفيري المتعلق بخطاب الرفض والاحتجاج والعنف، يجب أن يكون على صعيد واحد، مرجعه الأساس تحصيل مصالح الأمة وتكميلها وتعطيل المفاسد عنها وتقليلها إلى أقصى ما يمكن، على أن يكون ذلك كله في حركة تجدّد دائم في الشكل والمضمون والحركة والمنهج وصورة الخطاب، وبأسلوب الحكمة -التي هي وضع الشيء في موضعه، بمعنى عدم خروج السلوك القولي والعملي عن دائرة الواقع في حاجاته وتطلّعاته ومستواه – المقرونة بالموعظة الحسنة، وبامتزاج هذه العناصر نصل إلى الخطاب الأمثل الذي ينفذ إلى العقل بسهولة وإلى القلب بسرعة، وإلى الحياة بيسر وانسجام، من خلال الحسن في مضمون الوعظ الذي هو معنى الوعي في حركة الخطاب، والحسن في الأسلوب الذي هو سر الحركة في اتجاه الوجدان، وبهذا يكون خطابنا الإسلامي مميّزا ومؤهلا للجدال بالتي هي أحسن للأفكار المضادة لفكرته، مبتغيا في ذلك تحقيق المصلحة العليا لدينه وأمته ودافعا عنهما الفساد الواقع أو المتوقع وقاطعا لأسبابه أو مقللا لها، ويجمع هذا قوله تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن}.
*رئيس الهيئة الشرعية بمصرف السلام الجزائر