إن مكانة العلماء في دين الله تعالى لا تخفى على أحد، كيف وقد صرح القرآن العظيم الذي يقرأه المسلمون بفضلهم ومكانتهم في أكثر من آية، فقال الحق تقدست أسماؤه: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم}، “فانظر كيف بدأ سبحانه وتعالى بنفسه، وثنى بالملائكة، وثلث بأهل العلم، وناهيك بهذا شرفا وفضلا وجلاء ونبلا”، وقال الحق جلت صفاته: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير}، وقال عزت قدرته: {إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء}، وقال جل شأنه: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب}، وقال عز شأنه: {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون}.
فالواجب على كل مسلم أن يعرف للعلماء قدرهم وحقهم وفضلهم، ولا يجوز له أن يضع ما رفع الله تعالى. بيد أن هذا الفضل العظيم لا يعني أن العلماء معصومون بل هم بشر كالبشر يصيبون ويخطئون، ولا يعني أيضا أن كل من انتسب إلى العلماء أو ادعى النسبة إليهم يحصل هذا الفضل وينال هذا الإكرام، ولا يعني كذلك أن العلماء كلهم في مرتبة واحدة من الفضل والقدر والأثر، بل هم متفاوتون تفاوتا كبيرا في تأثيرهم في واقع الأمة ومسار تاريخها.
ولا بأس أن أؤكد أنه لا رجال الدين في الإسلام، لهم قداسة أو اتصال ما بالروح القدس كما هو في الأديان الباطلة الأخرى، وإن شاع في الإعلام وعند العوام إطلاق كلمة رجال الدين على العلماء المسلمين، وهو خطأ بلا ريب. مع أن المثقفين وأشباه المثقفين بالثقافة الغربية -وخاصة المبهورون منهم بهذه الثقافة، البالغون حد الثمالة بالإعجاب والتأثر- يصرون عن قصد على إسقاط أسباب ومآلات الصراع التاريخي بين رجال الدين الكنسي وبين رجال العلم الأوربيين على تاريخ الأمة الإسلامية وواقعها، وهو موقف ساذج يضحك منه من له مسكة من عقل أو قبضة من علم؛ لاختلاف المعطيات بين الحالين اختلافا كليا لا يخفى على من له أدنى إدراك وأنزر معرفة. بيد أن هذا الصنف من أشباه المثقفين يفعل ذلك عمدا تدليسا على الناس، وطمسا للحقيقة الباهرة.
إن علماء أي أمة في أي فن من فنون العلم وفي أي تخصص منه ليسوا سواء قطعا كما ألمحت سلفا، لا في عِلمهم، ولا في نزاهتهم، ولا في اجتهادهم، ولا في إبداعهم، ولا في أثرهم، ولا في تمثيلهم للعلم الذي يحملونه، وهكذا أيضا علماء الشرع الإسلامي، فهم ليسوا سواء.
وعلى هذا ففضل العلماء المنوه به في القرآن العظيم لا يناله كل من عده الناس عالما، أو عد نفسه عالما!، إنما يظفر من هذا الفضل بقدر التحقق بصفات العلم!. ولا عبرة بالشهرة وذيوع الاسم، فالشهرة كثيرة ما تكون مصنوعة صنعا، ذلك أن ((العالم)) الذي تكون وراءه دولة قوية غنية، تطبع كتبه وتوزعها بالمجان، وتصنع دوائر من ((التلاميذ)) له ينشرون آراءه وينوهون بذكره، ويصنعون مكانته وهيبته حتما سيظن الناس بأنه المرجع الأعلم والعالم الأكبر!، وليس حقيقة الأمر كذلك.
ومما يؤكد أن الشهرة لا تعني الأعلمية، بل هي في الغالب (حظوظ) أو في أمرها إن وأخواتها!، ما روي عن الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه قال: قدمت المدينة، فأتيت أبا الزناد [عبد الله بن ذكوان القرشي المدني التابعي الجليل رضي الله عنه]، ورأيت ربيعة الرأي [ربيعة بن أبي عبد الرحمن فروخ أبو عثمان التيمي المدني التابعي الجليل رضي الله عنه]، فإذا الناس على ربيعة، وأبو الزناد أفقه الرجلين، فقلت له: أنت أفقه أهل بلدك، والعمل على ربيعة؟، فقال: ويحك كف من حظ خير من جراب من علم!.
ولقد سُئلت مرات عديدة عن هذا التباين البين، الذي يصل حد التناقض بين اتجاهات العلماء المعاصرين، من عصر النهضة إلى يوم الناس، حيث نجد في المشهورين من العلماء من ينحو نحو التجديد والإبداع ومعالجة القضايا المستجدة الواقعية التي يحتاجها المسلم المعاصر، ونجد إنتاجه الفكري ينصب في هذا المجرى، وفي المقابل نجد في العلماء المشهورين من يعيد إنتاج ما تركه علماء الإسلام في القرون الغابرة باللغة المستعملة الآن، وتأليف كتب وطبعها طباعة راقية لكن مضمونها ذكره السابقون منذ قرون، بل لو حرقنا كتب هؤلاء الصنف الأخير لما خسرنا شيئا، فهي لا تخرج عن التكرار والاجترار، أما الأولون فلو فقدنا بعض كتبهم لتأخرنا عقودا أو قرونا. هذه حقيقة لا يمكن تجاهلها، ولكن كف من شهرة خير من جراب من تجديد وإبداع.
ولا غرابة أن نجد للفريقين أنصارا وأتباعا ومعجبين ومحبِين، والسر في ذلك أن العلماء المجددين ينجذب إليهم الطاقات الحية من مجتمعاتنا، المتطلعة للإصلاح والتغيير نحو الأحسن، والفئات المتنورة المستوعبة لمتطلبات العصر ومقاصد الشرع. أما العلماء التقليديون -أو قل: الجامدون أو المكررون أو سمهم ما شئت مع احترامنا وتقديرنا للجميع- يلتف حولهم فئات يغلب عليها التحفظ والخوف من الجديد، والشعور بالأمن مع الأفكار والآراء المألوفة والقديمة، والهروب إلى الأسلاف والتاريخ من مواجهة تحديات زمانهم ومتطلباته.
وبعد، فعلينا أن لا نغتر بالشهرة والذيوع في تقييم العلماء، بل ننظر إلى التجديد والإبداع الذي قدموه، والعلم الأصيل الذي بذلوه، الذي حل مشكلات واقعية، وكان استجابة لتحديات العصر. فهذا هو المعيار الحقيقي لتقييم جهود العلماء لا الشهرة الّتي قد تكون مصنوعة من خبراء، أو حظ نزل من السماء. وأنا لم أذكر الأسماء تمثيلا حفظا للمقامات، وحتى أبقى في عالم الأفكار بعيدا عن عالم الأشخاص. واللبيب يكفيه مكتوم الإشارة، وغيره لا يفهمه صريح العبارة!.
*إمام وأستاذ الشريعة بالمدرسة العليا للأساتذة