38serv

+ -

ماذا يجري في الإعلام الفرنسي المكتوب والمسموع والمرئي؟ سؤال لم يعد يطرحه الأجانب منذ بدء الحرب على غزة، بل صار على لسان حتى الصحفيين الفرنسيين أنفسهم وداخل هيئات تحريرهم، ليس فقط بسبب "الانقلاب" الحاصل في خط افتتاحياتهم والمعايير المزدوجة في أخلاقيات المهنة وإنما أيضا في الضغط السلطوي والمالي والتهديد والوعيد الممارس على المهنة الصحفية وعلى الصحفيين في كتاباتهم.

وفقا لمقياس "لاكروا" الجديد (العدد 37) الصادر أمس، فإن أكثر من 57 بالمائة من الفرنسيين لا يثقون بوسائل الإعلام فيما يتعلق بالأحداث الجارية. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل يؤكد نفس المصدر أن هذا التوجه في عدم الثقة في تزايد مستمر. ويعتبر 59 بالمائة من المواطنين المستجوبين أن الصحفيين ليسوا مستقلين "عن ضغوط الأحزاب السياسية ومن هم في السلطة"، كما يعتقد 56 بالمائة أنهم لا يقاومون "ضغوط المال".

ورغم أن التلفزيون لا يزال يمثل أكثر الوسائط استخداما، حيث يشاهده 69 بالمائة من المشاركين مرة واحدة على الأقل يوميا، غير أن تأثيره في تراجع مستمر أيضا، حيث يأتي الإنترنت في المركز الثاني بنسبة 62 بالمائة، أي بزيادة عشر نقاط عما كان عليه في جانفي 2023، ما يعني أن وسائل التواصل الاجتماعي أضحت المصدر الرئيسي في متابعة الأحداث وليس وسائل الإعلام التقليدية. فلماذا هذا الانقلاب؟

ثلاثة من كل أربعة فرنسيين، حسب الاستطلاع، لهم الانطباع بأن وسائل الإعلام تتحدث دائما عن نفس المواضيع (48 بالمائة) أو الشعور بالقلق أو العجز (38%) أو حتى عدم الثقة بما تقوله وسائل الإعلام (27%). يقول ثلث الذين شملهم الاستطلاع إنهم تركوا وسائل الإعلام بسبب معالجة المعلومات التي بدت سلبية للغاية أو مثيرة للقلق.

وفيما يتعلق بمعاملة وسائل الإعلام لبعض المواضيع الجارية، يرى 50 بالمائة من المشاركين في الاستطلاع أن وسائل الإعلام "تحدثت كثيرا" عن أعمال الشغب التي أعقبت وفاة ناهيل و41 بالمائة عن الحرب في أوكرانيا، وفي ذلك إشارة واضحة إلى سيطرة اليمين المتطرف على وسائل الإعلام، حيث يركز على مواضيع المهاجرين لبث سمومه ولتغطية القضايا التي تهم الفرنسيين، خصوصا ما تعلق بالقدرة الشرائية.

وفي نفس هذا المقياس للرأي العام، يقول الفرنسيون أيضا إنهم غالبا ما يواجهون أخبارا مزيفة أو معلومات تشوه الواقع. ما يقرب من النصف (49%) يتواجدون عدة مرات في الأسبوع على شبكات التواصل الاجتماعي و36% على شاشات التلفزيون أو حتى 24% على الراديو. لكن ما الذي جعل الثقة في وسائل الإعلام الفرنسية تتدهور إلى هذا الحد، في بلد يرفع راية حرية التعبير والاستقلالية؟ 

ڤيوم موريس تم استنطاقه من قبل شرطة باريس لأنه وصف في عموده الافتتاحي الهزلي في إحدى القنوات التلفزيونية نتنياهو بـ"النازي"، كلمة كانت تمر عاديا في الإعلام الفرنسي عندما تلصق بـ"بوتين" أو "الأسد" أو أي حاكم من دول الجنوب، لكنها تجر إلى المحاكم لما تنسب إلى قادة الكيان المحتل! لم يحدث أن تبرأت قناة تلفزيونية من صحفي لديها بمثل هذه الطريقة المشينة والعنيفة والتي فيها من المغالاة ما يطرح العديد من علامات الاستفهام. إنها قناة "تي في 5 موند" الفرنسية التي أوقفت الصحفي محمد قاسي فقط لأنه تعامل باحترافية إعلامية في أسئلة حواره مع الناطق باسم الجيش الإسرائيلي، التي لم تعجب هذا الأخير الذي ضغط لطرد محاوره بتهمة جاهزة. فلماذا صارت حرية التعبير في فرنسا تجر إلى المحاكمة أو الطرد؟ 

كتب موقع "ميديا بارت" تحقيقا جاء فيه "في بعض مكاتب التحرير، الصراع الإسرائيلي الفلسطيني يسخن العقول. منذ 7 أكتوبر وهجمات حماس كانت المناقشات التحريرية نشطة بشكل خاص داخل وسائل الإعلام الفرنسية، إلى حد التسبب أحيانا في انزعاج وانقسامات حقيقية تتبلور في الخوف من الاتهام بالتحيز"، فأضحى كل صوت يحافظ على الاستقلالية والحيادية والموضوعية وعدم الانحياز إلى الدعاية الصهيونية مصيره التهميش، الطرد أو المحكمة بتهمة جاهزة "معاداة السامية".

وضمن هذا السياق المعتمد من قبل أغلبية وسائل الإعلام الفرنسية، باستثناء وكالة الأنباء الفرنسية، على وصف حماس بـ"الإرهابية" ومطالبة الضيوف الذين تستضيفهم بتوجيه الإدانة إليها، فإن هذه القنوات التلفزيونية، على غرار "بي أف أم تي في" أو"سي نيوز" أو ليبراسيون أو الباريسيان وغيرها، تقوم بذكر مصطلح "القتلى" عندما يتعلق بالجانب الإسرائيلي، على أساس أنهم قتلوا من قبل الفلسطينيين، واستعمال مصطلح "الموتى" بخصوص الفلسطينيين وكأنهم ماتوا موتا عاديا وليس برصاص الكيان المحتل، ونفس الشيء في استعمال مصطلح "المستوطنون" وتعويضه بـ"المستوطنات" للإيحاء بأنه لا يوجد احتلال للأرض. تذكرت بالمناسبة أن فرنسا نظمت مسيرة 11 و12 جانفي 2015 في شوارع باريس، غداة الهجوم على مقر صحيفة "شارلي ايبدو"، قالت إنها من أجل الدفاع عن حرية التعبير. فمن هو الذي بصدد وأد ومحاكمة حرية التعبير اليوم؟ ومن الذي جعل الإعلام الفرنسي يسقط في مستنقع اللامهنية وازدواجية المعايير بشكل مفضوح إلى درجة تنفير قرائه ومشاهديه من الفرنسيين أنفسهم؟

 

كلمات دلالية: