إن الله تبارك وتعالى قد جعل الأموال قوام العيش وسبباً للحياة وصلاحاً للدين والدنيا، فنهى عن إضاعتها وحث على الاحتياط في أمرها، نظراً منه لعباده ورأفة بهم، وأمرهم أن لا يمكنوا السفهاء من أموالهم حراسة لها من أن تبذر وتنفق في غير وجهها فقال: “وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا” {النساء: 5}. والغرض من الآية هو الحث على حفظ المال، والسعي في أن لا يضيع ويهلك ويذهب عبثاً، لأن المال هو أساس قيام الإنسان، به تقوم معايشه من تجارة وغيرها بإصلاحه له وحسن تدبيره فيه.ومن الآيات الدالة على منع إضاعة المال وتبذيره وتبديده وإفنائه فيما لا غرض فيه، ولا فائدة ترجى من وراءه قوله تعال: “وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ﴿26﴾ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا” {الإسراء: 26-27}. ووجه النهي عن التبذير في الآية هو أن المال جعل عوضاً لاقتناء ما يحتاج إليه الإنسان في حياته من ضرورات وحاجيات وتحسينات، وأرشد إلى إنفاقه على وفقها في الترتيب حتى يكون ضامناً لكفايته في غالب الأحوال، وآمنا من الخصاصة فيما هو إليه أشد احتياجاً. وإذا ما تجاوز المرء بماله هذا الحد، صار مسرفاً مبذراً، وسمي تصرفه تبذيراً. قال المقري (السرف: هو زيادة على مقدار الضرورة والحاجة وما أذن فيه من التكملة).ونظرا إلى أن الإنفاق في الشهوات المباحة الزائدة عن الحاجات يصعب على الناس كبح جماح رغباتهم فيه والانقطاع عنه، سعى العلماء إلى وضع ضابط لذلك يميز به الجائز من الممنوع، قال ابن العربي: (فإن قيل: فمن أنفق في الشهوات – الحلال - هل هو مبذر أم لا؟ قلنا: من أنفق ماله في الشهوات زائدا على الحاجات وعرضه بذلك للنفاد فهو مبذر، ومن أنفق ربح ماله في شهواته أو غلته وحفظ الأصل أو الرقبة فليس بمبذر، ومن أنفق درهماً في حرام فهو مبذر يحجر عليه في نفقة درهم في الحرام، ولا يحجر عليه ببذله في الشهوات إلا إذا خيف عليه النفاد). هذا بالنسبة لإنفاق الإنسان ماله على الشهوات نفسه ومن تلزمه نفقتهم، أما إنفاقه في الحق والخير، فهذا لا تبذير فيه ولو أخرج كل ماله، قال ابن جريج ومجاهد: (لو أنفق إنسان ماله كله في الحق ما كان تبذيراً، ولو أنفق مداً في باطل كان تبذيراً)، وبمثله قال الشافعي.ولقد سلكت السنة مسلك القرآن في النهي عن إضاعة المال وتبذيره فيما لا يفيد، وحثت على أداء حقوقه والامتناع عن إمساكه دونها، وحذرت من الإقتار والبخل في ذلك، فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرّم عليكم عقوق الأمهات، ومنع وهات، ووأد البنات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال)، قال ابن المنذر: (وما كره الله لنا يحرم علينا فعله).وقد توعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتلف الذين يأخذون أموال الناس قصد إتلافها فقال: (من أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله)، ونبّه إلى أن تضييع المال قد يكون سبباً لعدم استجابة الدعاء، حيث قال: (ثلاثة لا يستجاب دعاؤهم: رجل له امرأة سيئة الخلق فلا يطلقها، ورجل أعطى مالاً سفيهاً ورجل داين ولم يشهد)، وإعطاء المرء ماله للسفيه هو تضييع له، لأن السفيه ما شرع الحجر في حقه إلا لسوء تصرفه وتبذيره لماله فيما لا مصلحة له فيه، ومن كانت هذه حاله فدفع الأموال إليه هو بمثابة التضييع لها.ورعاية لهذا المعنى، فإن الشريعة قد اعتبرت كل جاهل لحفظ ماله والعامل على تبذيره سفيهاً يجب الحجر عليه في جميع التصرفات المرتبطة بذلك، وإيجاب الحجر عليه راجع إلى مصلحته ومنع ضرره عن غيره، إذ هو بتبذيره ماله وتضييعه على خلاف مقتضى الشرع والعقل السليم فيما لا مصلحة له فيه ولا غرض صحيح، قد يفني ماله ويعيش عالة على غيره، أو مفسداً في الأرض، فكان من الحكمة الضرب على يده، قال ابن سريج بعد تعداده لضروب السفه: (فكل من كان بهذه الصفة فواجب على الإمام الحجر عليه ويأمر بذلك قضاته أن يأخذوا على أيديهم ويحفظوا أموالهم)، وقد قال الفقهاء في بيان الحكمة من تشريع الحجر وفائدته: هي المحافظة على الأموال لأنها مخلوقة للانتفاع بها دون تبذيرها.وفي الجملة، فإن المقصد الشرعي من النهي عن إضاعة المال هو أن تكون أموال الأمة عدة لها وقوة لبناء أساس مجدها والحفاظ على مكانتها حتى تكون مرهوبة الجانب، مرموقة بعين الاعتبار، غير محتاجة إلى من قد يستغل حاجتها فيبتز منافعها ويدخلها تحت نير سلطانه.* مدير تحرير مجلة “آفاق الثّقافة والتّراث”
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات