يقول الباري عز وجل: {وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق}.إن مما لا ريب فيه أن من مقاصد ديننا الحث على الاتحاد، ونبذ الفرقة والاختلاف، فالإسلام يحث على الاعتصام بحبل الله، وينهى عن التفرق والاختلاف، ولذا شرع لنا الاجتماع والتعارف، والاتحاد والتآلف، ومن هنا يُولي المسلمون وجوههم شطر المسجد الحرام، لتبرز من خلال ذلك وحدة المسلمين وجماعتهم، التفاف حول هذا البيت.ففريضة الحج تعدّ مؤتمرا إسلاميا كبيرا، يجمع المسلمين من كافة أقطار الأرض، وهو مناسبة لاجتماع الأمة وتقاربها، ومناقشة قضاياها المصيرية، وتعزيز علاقة الأخوة والترابط، وتعميق ثقافة الجسد الواحد، والتناصح فيما بينهم. فهو تجمع عظيم لا يعوقه اختلاف الألسنة والألوان، ولا تشعب الأعراق وتباعد الأوطان، فعقيدة الإسلام في سهولتها وفطرتها وقبلة المسلمين في قداستها، تؤكد هذا الرباط الوثيق من الأخوة، لينطقوا جمعيا بلسان عربي مبين: “لبّيك اللهم لبّيك”، فهم جميعا في موقف العبودية لله وحده: {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون}.إن ارتباط المسلم ببيت الله وبالقبلة ليس مقصورا على أشهر معلومات، ولا محصورا في أيام معدودات، ولكنه ارتباط دائم ووشائج لا تنقطع، فالمسلم يبدأ يومه ويستفتح عمله كما يختم نشاطه بالتوجه إلى البيت، حين يقف بين يدي ربه قائما، يؤدي الصلوات الخمس موزعة بانتظام في يومه وليلته، ينتظم مع إخوانه المسلمين حيثما كانت مواقعهم، وأينما كانت ديارهم، فبيت الله المحرّم هو الوجهة الدائمة التي ترافق العبد المؤمن في كل حياته، ليس مرتبطا بموسم، ولا محصورا في فريضة، بل حتى حين يُوَسَّد في قبره دفينا، فإنه يوجه إلى البيت الحرام، فهي قبلته حيّا وميّتا.ولنتأمل هذه الآيات الثلاث، قول الله عز وجل: {قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولِينك قبلة ترضاها فولّ وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون}، ولنتأمل قوله سبحانه: {ومن حيث خرجت فولّ وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون}، وقوله سبحانه: {ومن حيث خرجت فولّ وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولّوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون}. فيا ترى ما هو السر في التكرار لمعظم هذه الكلمات في هذه الآيات؟! لقد أُمر النبي باستقبال البيت في هذه الآيات ثلاث مرات، وأمر المسلمون مرتين، وتكرّر قوله سبحانه: {وإنه للحق من ربك} ثلاث مرات، وتكرّر تعميم الجهة ثلاث مرات، ما ذلك كله إلا لتأكيد عظَم هذا التوجه والتنويه بشأن استقبال الكعبة المعظمة، تقريرا للحق في نفوس المسلمين {الحق من ربك فلا تكونن من الممترين}. فتولية الوجوه نحو البيت تقتضي الحضور الدائم لمعاني الصلاة والحج وأسرارهما، وكل عبادة مرتبطة باستقبال هذا البيت المعظم.فالمسلم يولي وجهه شطر المسجد الحرام ليسير مع التاريخ بماضيه، ويسطحبه في حاضره، ليتذكر تاريخ البيت، وبناء البيت على التوحيد الخالص والملة الإبراهيمية الحنيفية، يولي وجهه شطر البيت ليرى كيف هدم الإسلام بنيان الجاهلية وقواعدها، يولي وجهه شطر الكعبة المشرّفة، ليتذكر ألوان العذاب التي لقيها المسلمون المستضعفون في ظلها وعلى جنباتها، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول لهم مطمئنا ومثبتا: “والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون”. فكل هذه الاستحضارات والتأملات تتجلى حين التأمل في التوجه نحو بيت الله المحرم واستقباله؛ ذلكم أن المقصود بالعبادات كلها تمام الخضوع لله: {فليعبدوا رب هذا البيت}.. والله ولي التوفيق.* إمام وأستاذ بجامعة العلوم الإسلامية – الجزائر1
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات