إن الناظر المدقق في شريعة الإسلام يجد أن عمود الأحكام وعمود الأخلاق فيها منفتلان إلى حد الامتزاج بحيث لا يمكن الفصل بينهما، فالأخلاق ويجمعها البر والإحسان حامية للأحكام من الانخرام، والأحكام حامية للأخلاق من الاختلال والانعدام.ونتيجة لهذا الامتزاج قد يظهر لبعض أهل العلم أن ما جاء في الشريعة من الحث على بعض وجوه البر والإحسان أنها تشريع وهي ليست كذلك عند البعض الآخر، ومنها ما جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا يمنعن جارا جاره خشبة يغرزها في جداره”، ثم يقول أبو هريرة: “ما لي أراكم عنها معرضين، والله لأرمين بها بين أكتافكم”، فحمل أبو هريرة ذلك على التشريع، إلا أن مالكا حملها على الترغيب في الإحسان؛ لأنه رأى أن الحمل على التشريع يتعارض وأصل حرية تصرف الشخص في ملكه أن لا حق لغيره فيه، ولهذا عقب على الحديث وقول أبي هريرة، بقوله: “أن لا يقضي على الجار بذلك”.وبناء عليه؛ جعلت الشريعة للذي يعطي جزءا من ماله دفعا لضرر متوقع عن مال غيره الحق في الرجوع به عليه، ولو كان بغير إذنه ما لم يكن متبرعا به، ويلزم الغير بتعويضه عما دفعه عنه، لأنه ليس لأحد أن يضر بنفسه وماله ضررا نهاه الله عنه، ومن دفع ذلك الضرر العظيم عنه بما هو أخف منه فقد أحسن إليه، وفي نظر الناس جميعهم أن من لم يقابل الإحسان بالإحسان فهو مقصر، ومثال هذا لو أن سلطانا فرض على تجار مدينة معينة غرامة مالية تقسم عليهم بالسوية، وأن هذه الغرامة ظلما لا حق له فيها عليهم، ولو تخلف أحد التجار عن الدفع لحقه بسبب ذلك ضرر عظيم في ماله، فإن من دفع عن الممتنع منهم حقه جاز له الرجوع به عليه لأنه دفع عنه ضررا عظيما سيلحقه في ماله بامتناعه، وليس للإنسان إدخال الضرر العظيم على ماله إذا كان بإمكانه دفعه بما هو أخف منه، وينبني هذا الكلام على القاعدة الفقهية القائلة: “كل من أدى عن غيره واجبا فله أن يرجع به عليه إذا لم يكن متبرعا بذلك وإن أداه بغير إذنه”.ويتضح مما سبق أن الشخص الذي قام بالإحسان إلى أخيه في أداء الواجب الذي عليه دون إذنه ومن غير تبرع منه لامتناع الذي عليه الحق من أدائه، هو صورة جلية في حامية الإحسان للأحكام، لأنه لو امتنع المحسن عن بذل إحسانه لانخرم حكم النهي عن إلحاق الضرر بالنفس والمال، لامتناع من عليه الحق القيام به.ومن هذا الباب أن غير المؤتمن من الناس إذا رأى عدوا يقصد مال غيره الغائب فبادر وصالح على بعضه ليخلصه من قبضة العدو كان محسنا بفعله، ولا يضمن ما دفعه من المال قصد تخليص بقيته. لأننا لو أجرينا عليه الضمان لتعطل الإحسان وانقطع في الناس، فتهدر بانقطاعه الحقوق وتضيع الأحكام.وبناء عليه فإن أصلا الشريعة الأمر والنهي وما يتعلق بهما من أحوال لا يقوم حكمهما إلا إذا شاركتهما جهة التعاون المبنية على البر والتقوى والإحسان وإقامة للمصالح العامة المطلوبة شرعا، ودفع المفاسد المطلوب دفعها شرعا، ولا يبلغ هذا الأمر تمامه إلا إذا امتزجت منظومتا الإحسان والأحكام وشارك في امتثالها وإقامتها جمهور الناس الذين يعيشون في مجتمع واحد وتحت سلطة واحدة من جهة، والشعوب والمِلل التي تربطنا بهم صلة التعارف من جهة أخرى، ومن ثم كان تبادل المصالح والمنافع ووجوه البر وأعمال الخير والمواساة وبذل المعروف وحسن الخلق وإكرام الناس من الأمور التي يستحب من المسلمين بذلها لجميع الناس والملل.فهذا باب في الشريعة عميق، وفي الصنعة دقيق، فمن فتح الله عليه فيه بالنفوذ إلى عمقه يجد أن لبه عبارة عن امتزاج روحين كلاهما من أمر الله، روح الإنسان الصادقة الزكية الطاهرة وروح الشريعة السمحة السراجية النظرة، ويمكن أن نصطلح على هذه المعارف بـ: “معارف ما فوق المقاصد”، وهي لحد الآن معارف يحيط بها العلم ولا تؤديها الصفة، وهذا يعني أنها تحتاج لبحث مكثف وعميق حتى نتمكن من استخراج أصولها واستنباط قواعدها وحصر ضوابطها.ومحصلة القول: أن صلاح أمر الأمة لا يكون إلا بامتزاج الأحكام الشرعية بالأخلاق المرعية في شرعة متبعة تصرف النفوس عن شهواتها، وتعطف القلوب عن إرادتها حتى يصير الالتزام بها والتقيد بمقتضاها قاهرا للسرائر، وزاجرا للضمائر، ورقيبا على النفوس في خلواتها، وهذه الأمور لا يوصل إليها بغير شريعة متبعة، وقانون محكم ومحترم، لا يصلح الناس إلا عليه فيكون الالتزام بتلك الشريعة وأحكامها والأخلاق الملازمة لها أقوى قاعدة في سلامة التصرفات واستقامة المعاملات، وأم الأمور نفعا في انتظامها.مدير تحرير مجلة ‘آفاق الثّقافة والتّراث’
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات