كان الصحفيون الجزائريون شديدي الحساسية من كل إشارة إلى ضرورة إصدار قانون للإعلام بعد ذلك الذي صدر في 1990، وكانت حجتهم في ذلك أن الإعلام لا يحتاج إلى مزيد من القوانين التي تكبله، ولا يتطلب سوى ميثاق لأخلاقيات المهنة فقط يصدره الصحفيون ذاتهم، وحساسيتهم هذه لم تمنع السلطات العمومية من إصدار القانون العضوي للإعلام في 2012. ورغم مرور سنتين، تقريبا، على صدوره، وهي مدة قصيرة للحكم على ما قدمه من إضافات في مجال حرية التعبير وحق المواطن في الإعلام ونوعيته، إلا أن الصحفيين شكلوا فكرة عن ما أضافه هذا القانون للمهنة.لقد قام المنضوون منهم تحت لواء نقابة الصحفيين بالمصادقة على ميثاق لأخلاقيات المهنة وشرفها في 13 أفريل 2000، وأنشأوا مجلسا لها وانتخبوا قيادة لها لمدة أربع سنوات. وبعدها، لم يبد من هذا المجلس ما يشير إلى أنه على قيد الحياة. ولكل صحفي أو مالك مؤسسة إعلامية تفسير لموت هذا المجلس، نتمنى أن يفصحوا عنه في نقاش عام ومعمق حول سبب إخفاقه في تحقيق أهدافه أو يقدموا، على الأقل، مبرّرات لعجزه عن الاستمرار في الوجود. ومن المحتمل أن يفضى هذا النقاش، إن تم، إلى تقديم إجابة شافية عن الأسباب العميقة التي أدت ببعض وسائل الإعلام إلى ضرب ميثاق أخلاقيات العمل الصحفي بعرض الحائط.لقد بات هذا النقاش ضروريا وملحا لأن الجزائر مقبلة على خوض تجربة جديدة في مجال البث الإذاعي والتلفزيوني، والتي يُحتمل أن تشهد انتهاكا لمهنة أصبحت مهنة من لا مهنة لهم، وتسجل تجاوزات أخلاقية أكثر من تلك التي شهدها قطاع الصحافة المكتوبة منذ حوالي ربع قرن. لقد كنا شهودا، في أثنائه، على انزياح بعض الصحف عن القواعد المهنية وجنوحها إلى تبني أسلوب لم يتردد البعض في وصفه بالـ«مافيوي”: اختلاق الأخبار، والطعن في شرف الناس، وممارسة الابتزاز والمساومة، واستخدام حق الرد الذي يضمنه القانون، سلاحا لتصفية الحساب ومادة للإشهار للكسب المادي. وتلاسن بعض الصحفيين الذي يتحول إلى نشر غسيلهم الوسخ عبر صفحات الجرائد. ورغم هذا، ظل بعض ممتهني الصحافة يطالبون بمدونة لأخلاقيات المهنة، وهم يعرفون أنها لا تجدي نفعا! ورغم هذا كله لم نسمع صوتا يدعو إلى إنشاء مجلس للصحافة.لم نكن ننتظر من الذين يناضلون من أجل الانفلات الأخلاقي في قطاع الإعلام وانتهاك قواعد المهنة، خدمة لمصالحهم، المطالبة بإنشاء هذا المجلس. أما جل الطامحين إلى ترقية العمل الصحفي فلم يطالبوا بذلك، ربما لأن مرجعيتهم القانونية تختصر في التشريعات الفرنسية. ونظرا لعدم وجود مثل هذا المجلس في القانون الفرنسي، فلا حديث عنه في الجزائر، ولا نملك سوى تمني انطلاق النقاش حول ماهية هذا المجلس في الجزائر بعد أن تجلت منافعه للصحفيين الفرنسيين منذ أربع سنوات، واستدركت نقابة الصحفيين التونسيين ضرورة إنشائه.أنشئ أول مجلس للصحافة في 1916 بالسويد. ثم انتشر في بقية بلدان العالم، خاصة في البلدان الأنجلوساكسونية. وكان الغرض منه إقامة هيئة للضبط الذاتي للنشاط الصحفي، وتأسيس فضاء يلتقي فيه الصحفيون ومالكو وسائل الإعلام والجمهور، من أجل توثيق علاقتهم والفصل في نزاعاتهم والنظر في شكاوى الجمهور من تجاوزات الصحفيين ومؤسساتهم. فالمجلس يشكل هيئة مستقلة عن السلطات السياسية والمالية، ومجالا للوساطة بين الأطراف الفاعلة في حقل الإعلام، وساحة للنقاش، بكل شفافية، حول آليات عمل وسائل الإعلام وإكراهاته. فإذا كان هذا المجلس يسمح للجمهور بمساءلة المؤسسة الإعلامية والصحفيين ومحاسبتهم، من باب تعزيز شعورهم بالمسؤولية، فإنه يُمَكّن المؤسسات الإعلامية من رفع درجة مصداقيتها بالرد على اتهامها المتواتر بأنها تتجنب قول الحقيقة عن قصد، لكونها مجرد لعبة في يد سلطة السياسة والمال، ولا همّ لها سوى جني المزيد من الأرباح. ويمنح الصحفي الإطار لتحسين صورته.وخلافا لما كان يعتقد الصحفيون الفرنسيون، فإن مجالس الصحافة غير الحكومية، التي بلغ عددها في العالم 89 مجلسا في 2007، لم تكبّلهم بالمزيد من المواثيق والقوانين، بل جنّبتهم الخضوع إلى المعايير التي تفرضها السلطات العمومية عليهم، لأنها تسمح لشركاء المهنة بابتداع معاييرهم وتسوية خلافاتهم فيما بينهم دون اللجوء إلى المحاكم إلا في حالات استثنائية جدا. لا يمكن أن يفهم مما سبق قوله أن مجلس الصحافة يملك خاتم سليمان لحل كل مشاكل وسائل الإعلام، لأن فاعليته تشترط قدرا من تنظيم أهل المهنة ودرجة من وعي المواطنين (المجتمع المدني) بمسؤولياته. وإن غاب هذان الشرطان يمكن للسلطات التنفيذية أن تستغل هذا المجلس لتدجين المهنة وزجر ممارسيها. فهل يمكن لهذا المجلس إن وجد في السياق الجزائري أن ينجز هدفا واحدا ملحا، على الأقل، وهو تطهير المهنة من الدخلاء ومنتحلي صفة ممارسيها؟
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات