+ -

انتهى اليوم، أوف! كان يوما مُتعبا ومُملاّ، هو في الحقيقة مُمل أكثر ممّا هو مُتعبٌ، فعلى طول ساعات العمل لا يمكنني مقاربة حبيبي. أجل العمل يحرمني حبيبي، العمل شرّ لابدّ منه، فكما يقول المثل الانجليزي: لا عملَ لا مالَ، لابدّ من العمل إذن، خاصة وأن حبيبي يستنزف منّي المال ولا يمنحني فلساً، لكن حتى لا أظلمه وأنكر فضله، وما أكثر المظلومين والجاحدين في هذا الزّمان.حبيبي يمنحني متعة لا يمنحني إيّاها العمل، أي أي أي! لا تذهبوا بخيالكم بعيدًا، فحبيبي ليس رجلا، ولا امرأة، ولا حتى مخنّثا، حبيبي كائن من جنس آخر، كائن قد يُصمّمُهُ الرّجال وقد تُصمّمه النّساء، في الواقع لا يهمّني المُصمّم بقدر ما يَهمّني المُصَمَّمُ.. أجل، حبيبي ليس حبيبا واحدا، بل متعدّدا، فأحيانا يكون نحيفا، وأحيانا ثخينا، أحيانا يتحدث الفرنسية، أحيانا يُخاطبني بالعربية، وأحيانا بالانجليزية، وأحب الأحبة إلى قلبي هو ذاك الفارس العربيّ.المهم، انتهى اليوم المتعب المملّ، غادرت مقر العمل متجهة نحو محطّة الحافلات، ويا فرحتي وأنا أقف أمام الحافلة فأجدها خاوية، يا سلام، الحافلة خاوية، أتدركون معنى أن تكون الحافلة خاوية وأن تكون أنت أول من يستقلها، قد يقول البعض معنى هذا أن يطول الانتظار، من يقول بهذا فلا شكّ أنه لم يعرف حبيبا كحبيبي، وأنصحه حبًا مني له في اللّه، أن يتّخذ له حبيبا كحبيبي، عندها سيدرك معنى أن يكون أوّل من يستقل الحافلة، معناها أنّك ستختار المكان الذي ستتموقع فيه لتختلي بحبيبك، أجل، ولا أحبّ إلى قلبي من ذلك المقعد بجنب النافذة، فما أن أتموقع، أفتح النافذة قليلا أو كثيرا حسب برودة الطقس، حتى أُسْرع إلى دسّ يَدِي في حقيبتي لأسحب حبيبي من مخبئه، حبيبي! كم اشتقت إليك، اشتقت إلى تلك الصفحات التي يعلوها السّواد ويلفّها غلافُ ما إن أفتحه حتى تغيب الحافلة بمقاعدها ومستقلّيها وسائقها وقابضها الذي لا يكف عن التبريح باتجاه الحافلة ومحطّاتها، الكل يختفي في طرفة عين، المحطّة والبلدية التي بها المحطة والولاية التي بها البلدية والبلد الذي به الولاية والقارة التي بها البلد، الكل يُمحى ولا يبقى بالعالم الرحب سواي أنا وحبيبي– تموقعت إذن وكأنّي بلقيس تعتلي عرشها في سبأ، فتحت حبيبي في الصفحة التي فارقته فيها صباحا وأنا متجهة إلى العمل.. حبيبي هذه المرة يتحدث الفرنسية، لكنه من جنسية جزائرية، فهو من تصميم المبدع أمين الزاوي، وأنا في سفري ذاك أستمتع بالحرية التي لا أعيشها إلا في مملكتي، وإذا بصوت يهمس من بعيد ليعيدني إلى القارة والبلد والولاية والبلدية والحافلة والجُموع، أقاوم الصوت ولا أنقطع عن حبيبي فالصوت لا يعنيني، هو صوت أخطا مقصده أكيد، لكنه يا للعجب يلحّ وينادي: يا آنسة – يا آنسة.. لا أجيب، النداء لا يعنيني فأنا لست هنا، آنسة، يا آنسة، ما من مجيب والصوت يلحّ، يبدو أني المقصودة، أرفع عينَيَّ عن حبيبي حزينة متأسّفة وأنظر إلى المنادي، هي منادية، نعم يا آنسة بما أخدمك، ويا إلهي ما كان طلبها، تصوروا، قالت بكل بساطة وأريحية: يا آنسة من فضلك، هل تستبدلين مقعدك بهذا المقعد– مشيرة إلى مقعد جانبي لا يطل على النافذة– لأجلس مكانك، أصابني البله، ورب الكعبة أصابني البله ولم أستوعب الطلب، تحققت من الحافلة، لا تزال بها مقاعد حرة، لكن كل المقاعد جنب النافذة مشغولة، سألتها مستسمحة: “عذرا ما تطلبين مني؟”، وردّدت الطّلب بكل بساطة، وكأن الأمر عادي وبسيط، هي تريد موقعي أنا دون غيري، مع أنّ غيري يجلس منفردا دون حبيب، هي تريد موقعي، تطلب مني أن أتنازل لها عن عرشي، عذرا يا آنسة، أتراك سيّدنا سليمان ولا أدري، فواللّه، لو وضعت ألمانيا بشمالي واليابان بيميني ما تنازلت لك عن موقعي، عذرا! لست أكيدة بخصوص اليابان، ربما أفكر بالاقتراح! تركتها مندهشة من جرأتها وعُدت متلهّفة إلى حبيبي بعدما فَارَقَت بيننا تلك العذول، وما أكثر العذَّال في حافلات النقل العمومي.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات