الإنسان كثير النسيان، كثير الجحود، كثير الغفلة، كثير الطغيان، والنسيان قد يكون من نعم الله تعالى عليه في بعض الأحيان، أما الجحود والغفلة والطغيان فتعد من السلبيات التي يعاني منها، والتي غالبا ما تكون قاتلة معنويا بالنسبة إليه، ولا أدل على هذا المعنى من موقف الإنسان من نعم الله تعالى عليه وتعامله معها، ذلك أن الإنسان محاط بنعم الله تعالى المتكاثرة من كل جهة، حتى من قبل أن يولد بتهيئة أسباب الإيجاد، إلى ما بعد وفاته ببقاء نسله من أبناء وأحفاد، والنعم بين ذلك يستحيل أن يدركها عد ولا أن تحصى أو تحصر، قال الله عز شأنه: {وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار}، ومعنى {إن تعدوا} إن تحاولوا العدّ وتأخذوا فيه، لا تُطيقوا الإِتيان على جميعها بالعد لكثرتها البالغة مبلغا يستحيل على عقل البشر المحدود إدراكه. ومع ذلك فالإنسان ظلوم: يظلم النعمة بإغفال شكرها وحمدها، كفار: شديد الكفران والجحود لها، وقال أيضا: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم}، والحمد لله أنه أعقب تقرير هذه الحقيقة هنا بقوله: {إن الله لغفور رحيم}: أي يغفر لكم التقصير في شكر نعمه، وهذا الغفران وهذه الرحمة من أعظم النعم، {ولكن أكثر الناسِ لا يعلمون}.ومن لطيف ما أذكره في سياق الحديث عن شكر نعم الله تعالى، ما حدثنا به أخي الحبيب الشيخ رشيد جادل، أنه مرة -وهو في المسجد الحرام- سمع رجلا كويتيا عجوزا يردد في مُصلاه بعد صلاة الصبح: الحمد لله على نعمة الكهرباء، وجعل يرددها حتى أشرقت الشمس، فتقدم إليه وسأله عما سمع منه، فقال الرجل: إني منذ خمسة عشر سنة، كل يوم بعد صلاة الفجر اختار نعمة من نعم الله تعالى أشكره عليها، واليوم كان يوم شكر نعمة الكهرباء!. نعم إن الكهرباء نعم جليلة عظيمة من نعم الله تعالى علينا، خلقها في الطبيعة مذ خلقها، واحتاج الإنسان إلى قرون متطاولة حتى يستطيع اكتشافها وتسخيرها، ولكن أكثر الناس لا يؤدون شكرها، بل أكثرهم لم يخطر بباله أصلا أنها مما أنعم الله تعالى به على الناس، حقا: {إن الإنسان لظلوم كفار}، وصدقا: {إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون}.الحق أنه لو أردنا أن نوصف الحياة على هذه الأرض باختصار لقلنا: هي تقلب في نعم الله تعالى مشوب بابتلاء تذكيرا وامتحانا، ولكن الإنسان تراه يقنط ويجزع للابتلاء يصيبه على تقطع، ويغفل عن نعم الله تعالى المتواصلة المتوالية: {لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوط}.إن غفلة الإنسان عن نعم الله تعالى غريبة، فهي غفلة عن أشياء حاضرة ظاهرة، يراها ويلمسها ويسمعها، ويتنعم بها، ويغفل فلا يستشعر أنها من أعظم النعم عليه، ولا يستشعر عظمتها ومداها، ولا يؤدي شكرها وحمدها، بل إن العاقل -وإن لم يكن عالما- ليدرك أن هذا الكون البديع الذي خلقه الله تعالى وأوجده من عدم كله آيات بينات على القدرة الإلهية، وآيات مذكرة للإنسان بجليل فضل الله عليه وبسابغ نعمه التي لا تعد ولا تحصى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَاب}، {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}، بيد أن الإنسان مشغول بنفسه ورغباته، مهموم بأهوائه وحاجاته، فهو غافل عن الكون وآياته: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُون}.أليس غريبا أن تكون غفلتنا أكثر عما كان من النعم أكبر وأظهر؟!، وإلا كيف نفسر غفلة عموم البشر -إن لم أقل كلهم إلا النادر ممن رحم الله واصطفى- عن نعمة استقرار الأرض وثباتها؟!، وهي النعمة التي قامت عليها الحياة ورست، ولو عدمت لما أمكن العيش على هذه الأرض، ولا الانتفاع بأدنى نعمة من نعم الله تعالى المبثوثة فيها، لا جرم أن وجدنا القرآن الحكيم يكرر التذكير بها والتنبيه عليها، ومن ذلك قوله جل جلاله: {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}، {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}،{وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُون}، {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيج}، {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ * وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُون}، {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}، {وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُون}، فجعل الأرض قرارا، ومدها وفرشها ومهدها، هو بسطها ثابتة يمكن العيش عليها والاستقرار فوقها، {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ}، أي: نصب فيها جبالاً ثوابت {أَنْ تَمِيدَ} أي: لئلا تميد بكم، والميد: هو الحركة والميل، فالجبال تثبت الأرض فلا تتحرك ولا تميل، وهذه حقيقة علمية يعرفها كل الناس الآن، فالجبال آية من آيات الله العظمى، ومظهر من مظاهر إعجاز قدرته، وعظيم عنايته بالناس، {ولَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُون}.وإن من حكمة الله البالغة أن قدر على هذه الأرض بالقوانين التي جعلها تحكم سيرها، أن ترتج المرة بعد الأخرى، في مناطق مفرقة منها، ابتلاء للناس، وتذكيرا لهم بنعمه عليهم، وبضعفهم أمام قدرته، وحين تقع الزلزلة عندها يتذكر الناس نعمة استقرار الأرض التي غفلوا عنها طويلا: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا}، فيصبر المؤمن ويشكر ويرضى فله الرضى، ويضجر الكافر ويسخط فله السخط!، فـ{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُور}.*إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات