حرب البلقان والتراث الإسلامي ومأساة معهد الاستشراق بسراييفو بالبوسنة والهرسك

38serv

+ -

 تأسس معهد الاستشراق (Orijentalni institut u Sarajevu) في ربيع سنة 1950م بسراييفو؛ عاصمة البوسنة والهرسك التي كانت ضمن الاتحاد اليوغسلافي سابقًا، وهو معهد للدراسات الاستشراقية، وكان في بداية تأسيسه معهدًا لتأدية مهمة استشراقية بحتة، ولكن أخذت هذه المهمة في التغير بعد فترة من الزمن؛ وذلك عندما تولى إدارته المستشرق سليمان غروزينيتش؛ حيث تغيّرت النظرة للتراث البوسني، فأصبح يدرس كتراث أصيل، ومرجع حضاري للأجيال الجديدة، وليس بوصفه تراثًا شرقيًا أجنبيًا عن أهل البوسنة، فأصبح المعهد يقوم بدور المسؤول عن ردم تلك الهوة التي فصلت الأجيال الجديدة عن تراثها الماضي زمنًا طويلًا؛ وذلك بإصدار دراسات وأبحاث وإعادة نشر هذا التراث باللغة البوسنية الحالية، وبترجمة المؤلفات الكلاسيكية التي كتبت بالعربية والفارسية والعثمانية إلى اللغة البشناقية. وبذلك، فإن أدب المسلمين في البوسنة أخذ يعود إلى الحياة، ويجري على ألسنتهم وأقلامهم، بعد عام 1970م؛ حيث كثرت الإصدارات والمختارات التي تعيد تقديم هذا التراث، وتعريف الأجيال الجديدة بمحتواه الغني والمتنوع الذي امتد على مدار 450 سنة تقريبًا.إن المنحى الجديد الذي اتخذه معهد الاستشراق في أهدافه وفلسفته وأبعاد أعماله تحت إشراف الإدارة الجديدة، والمتمثلة في إعادة بعث أمجاد المسلمين وحضارتهم في البلقان عمومًا، والبوسنة خصوصًا، بلسان شعوبها وأقوامها، وكذلك إحياء سير عظماء تلك الحضارة من العلماء والشعراء والأدباء والمؤرخين وغيرهم؛ مما أدى إلى استنهاض الهمم وتحريك الوعي الإسلامي والقومي لدى كثير من أبناء تلك البلاد، وهو ما حرك مشاعر الخوف والحذر لدى الجهات الرسمية، والهيئات والمنظمات غير المسلمة في المنطقة؛ مما أدى إلى تنامي الكراهية للتراث الإسلامي الذي عدّ إعادة إحيائه من قبل معهد الاستشراق بمثابة تهديد للكيان اليوغسلافي الموحد؛ ولذلك لما أعلنت جمهورية البوسنة استقلالها عن الاتحاد اليوغسلافي سنة 1992م، صبّ الصرب جامّ غضبهم على معهد الاستشراق فحدث له ما حدث.ففي السنة التي شهدت إعلان استقلال البوسنة عن يوغسلافيا السابقة 1992م، كان عدد المخطوطات بمعهد الاستشراق قد وصل إلى 5263 مخطوطة في اللغات الشرقية الثلاث (العربية والعثمانية والفارسية)، بالإضافة إلى اللغة البوسنية المكتوبة بالحروف العربية، مما جعلها من أهم المجموعات في دول البلقان، فقد ضمّت هذه المجموعة مخطوطات متنوعة يعود تاريخ أقدمها إلى سنة 413هـ، وهي الموسومة بـ: “النوازل من الفتاوى” للسمرقندي، كما اشتملت على مخطوطات كثيرة مؤلفوها من منطقة البلقان نفسها، وبالتحديد من البوسنة.ولكن من كان يتوقع أن حربا ستندلع في البلقان، وفي البوسنة نفسها، ويقع فيها ما يصدم العالم، من “تطهير عرقي وديني وثقافي” ممنهج، كان يهدف إلى تطهير مناطق واسعة في البوسنة من سكانها، ومما يذكّر بهم من معالم حضارتهم وتراثهم، بغض النظر عن قيمتها التاريخية: (جوامع ومدارس ومكتبات...إلخ)، وفي خضم هذه الحرب الضروس والشرسة بكل المقاييس، جاء الدور على معهد الاستشراق في سراييفو.ففي يوم 18 أيار 1992م، حين كانت المدينة محاصرة من الجهات الأربع، تعرّض معهد الاستشراق إلى قصف مركّز أدى إلى تدميره بالكامل، وأصبح أثرًا بعد عين، وفي ذلك اليوم الحزين والأليم على الأمة الإسلامية، أمكن القول إن تلك الثروة الإنسانية من المخطوطات الشرقية التي تم تأليفها وجمعها خلال ألف عام، أصبحت تاريخًا ستدرسه الأجيال القادمة، أو حكايات يرويها من عاينوا الأحداث لمن جاؤوا بعدهم، وهم يقصون على مسامعهم تفاصيل تلك المأساة، ويقولون لهم كنا نملك ثروة من العلوم ورثناها عن أجدادكم وكان مكانها هنا، ولكن حرب الصرب علينا قضت عليها وعلى المعهد فلا هي باقية، ولا المكان.. والله نسأل أن يحفظ الأمة الإسلامية وتراثها.* مدير تحرير مجلة “آفاق الثّقافة والتّراث”

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات