استغرب سكان ولاية سطيف، تلك النعرات التي تروج لها أطراف غريبة من أجل إشعال نار الفتنة بين مختلف الجزائريين في غرداية والتفرقة بين أبناء الوطن الواحد،خاصة بين المذهبين المالكي والإباضي. وبحكم أن الآلاف من سكان ولاية سطيف يعتبرون من السكان الأصليين ومن أتباع المذهب الإباضي، تنقلت “الخبر” إلى أحياء عرفت ولا تزال تعرف بأحياء “بني ميزاب”، خاصة في وسط المدينة بين شوارع الريفالي، باب بسكرة، زقاق التمارة وغيرها، اقتربت من المحلات التجارية لأبناء بني ميزاب،واكتشفت أن منهم من أحرقت مخازنه المتواجدة بغرداية، ومنهم من يملك محلات هناك جعلته يتخوف من أن تمتد إليها أيادي التخريب. رغم ما يشاع عنهم من انغلاق على أنفسهم وعدم الاحتكاك بباقي السكان، إلا أننا تفاجأنا للترحاب الكبير، زيادة على السماح لنا لأول مرة بمدينة سطيف بزيارة المدارس الخاصة لبني ميزاب، فيما كانت لنا أحاديث مع مجاهدين عايشوا الثورة التحريرية والكثير من السكان الذين تعايشوا مع بني ميزاب منذ قرابة القرنين.فضلنا، من خلال هذا الربورتاج، تسليط الضوء على المسار التاريخي لتواجد عائلات بني ميزاب حتى قبل التواجد الاستعماري في الجزائر. ورغم أن الكتابات التاريخية قليلة للغاية، إلا أننا تمكنا من الوصول إلى حقائق كثيرة دوّنها الكاتب الفرنسي “موريس فييار” في أحد الكتب النادرة بعنوان “تاريخ قرى ومداشر الهضاب العليا السطايفية”، إضافة إلى شهادات بالجملة من طرف مجاهدين وأعيان المدينة، وكلهم أجمعوا على سماحة العائلات الميزابية وقوة شخصيتها وأصالتها الإسلامية.وبالعودة إلى تاريخ المدينة، فإن المنبع المائي “عين لمزابي” هي إحدى العيون الأربعة الأولى في مدينة سطيف على غرار عين الفوارة، عين الدروج، عين بوعروة، حيث حفر هذا النبع المدعو “الشيخ البكير” الذي ينتمي إلى إحدى العائلات العريقة المزابية التي تدعى عائلة “باجلمان”، وهذا سنة 1890. وفي إطار التهيئة العمرانية أواخر 1800 من طرف الحكام العثمانيين، تم مد قنوات لتزويد المدينة بمياه المنبع التي صارت تمد محطة القطار بالماء على مدار السنة. ويؤكد المؤرخون الفرنسيون أثناء قدومهم إلى الجزائر، أنهم وجدوا الكثير من العائلات الميزابية والمدارس القرآنية وسط المدينة العريقة تم تشييدها منذ 1839، وكانت هذه العائلات ميزابية وتملك العديد من العقارات في قلب الأحياء الفرنسية، والغريب في الأمر أنها تعايشت بشكل كبير مع المعمرين مع محافظتها على أصالتها الإسلامية ومدارسها القرآنية العريقة باعتراف الفرنسيين أنفسهم. وكان من بين أعيان العائلات الميزابية الشيخ سي محمد بن يحيى، الذي كان رجل علم ودين ولديه مكانة كبيرة عند عروش الشرق آنذاك، من بينهم عرش عامر وأولاد عبد النور وأولاد ثابت وريغة.بنو ميزاب من مؤسسي مدينة سطيفتروي رسالة خطية موجهة من الجنرال الفرنسي فالبوا إلى الملك فيليب سنة 1871، كيف أن بني ميزاب شاركوا بقوة في المقاومة رفقة الشيخ المقراني، نواحي سطيف، وخاصة واقعة مقرس وعين مسعود، حيث تحالف بنو ميزاب مع الولي الصالح والعلامة سيدي امبارك بن سماتي الذي يعتبر أخ الشيخ سيدي السعيد الذي سميت عليه أول مقبرة بمدينة سطيف المتواجدة بحي بوعروة، ومن شدة المقاومة تراجعت قوات الاستعمار المكونة من 120 فارس إلى الخلف وتحصنت بالقلعة البيزنطية المتواجدة بحديقة التسلية، ومن هناك بدأت ملامح المدينة الاستعمارية الجديدة تتضح بعد أن راسل الملك فيليب قادته بضرورة تأسيس مدينة بسطيف لتفادي المقاومة مستقبلا.مع الرئيس فرحات عباسالسياسة الاستعمارية التي منعت الكثير من أبناء الشعب الجزائري دخول المدارس والتعلم، دفع سكان مدينة سطيف سنة 1933، إلى تشكيل وفد من أعيان المدينة وكان من بينهم شيوخ بني ميزاب بغرض التنقل إلى منطقة الطاهير بجيجل للتحدث مع والد الرئيس الأسبق فرحات عباس، المتخرج من كلية الصيدلة، بالإضافة إلى براعته في الطب. ولم تكن سطيف تتوفر آنذاك على طبيب تثق فيه الحركة الفدائية التي بدأت تتشكل آنذاك، فوافق والده على التنقل إلى سطيف بمبادرة من أحد أعيان بني ميزاب الذي منحه شقة ومحلا مجهزا كصيدلية بشارع باب بسكرة.هذه المبادرة أثرت كثيرا في شخصية أول رئيس للحكومة المؤقتة الجزائرية، أين ساهمت في إثراء شخصيته ودفعه لتكوين علاقات كبيرة مع الأعيان الميزابيين، منهم الشيخ بيوض والشيخ داود رحمة الله عليهم، حيث لم ينس فرحات عباس تلك المواقف التاريخية لشيوخ بني ميزاب أثناء اتفاقيات إيفيان الشهيرة، حيث حاول الاستعمار أن يغري شيوخ الإباضية من أجل الإمضاء على انفصال الصحراء، وهنا رفض هؤلاء هذه المناورات، مما دفع فرحات عباس إلى التنقل إلى منابع حاسي الرمل بنفسه لشكر الشيخ بيوض ومن معه على مواقفهم البطولية.ثوار.. “قلبا وقالبا”ورغم أن الكثير من الإشاعات تحوم حول الهدنة التي كانت بين الميزابيين وبين الاستعمار الفرنسي، إلا أن الكثير من الحقائق التاريخية تبقى مجهولة بسبب بقاء الأرشيف متفرقا عند الكثير من العائلات، حيث تؤكد شهادات مجاهدين لا يزالون على قيد الحياة، على أن دار التمور المتواجدة بحارة يحيى الشريف في قلب حي “ريفالي”، وهي ملك لعائلة ميزابية، كانت مقرا رئيسيا لتخزين الذخيرة، وساهمت بشكل كبير في تغذية العمليات الفدائية في المدينة، زيادة على أن حارة الشيخ باجلمان داود الميزابي بحي باب بسكرة، تبقى شاهدة على أولى التفجيرات التي تبنتها المنظمة السرية الفرنسية بعد مباشرة مفاوضات إيفيان لاستقلال الجزائر. فيما أكدت زوجة الشهيد حسان بلخير في حديث خصت به “الخبر”، على أن الشهيد بلخير كان يعود إلى المنزل بأموال كثيرة يمنحها له الشيخ داود الميزابي، وكانت توجه لبناء مدرسة الفتح التي تحمل الآن اسم الشيخ البشير الإبراهيمي، زيادة على أنه كان يتكفل برواتب المعلمين للغة العربية وتحفيظ القرآن بشكل كلي.من جهة أخرى، تبقى الكثير من العائلات السطايفية متواجدة في حارات هي إلى غاية الآن ملك لعائلات ميزابية، ولا يزال ثمن كرائها رمزيا لا يتعدى 200 دينار في الشهر، إضافة إلى أن أولى المقرات التي تم تأسيس أول فوج للكشافة الإسلامية والمتواجد بـ«زقاق التمارة”، لا يزال ثمن كرائه يقدر بـ “1 دينار جزائري” إلى غاية الآن، حيث كان هذا المقر نقطة لتوزيع الأضاحي على فقراء المدينة من غير بني ميزاب، زيادة على توزيع الأقمشة على جميع العائلات، مع تقديم عون كبير للقائمين على المظاهرات عبر توزيع القماش المستعمل في صناعة الأعلام الوطنية واللافتات مجانا.تعليم القرآن والعربية ورفض للتجنيسوفي جلسة مع أعيان العائلات الإباضية بمدينة سطيف، أكد هؤلاء بأن مجلس عمي السعيد الذي يعتبر أعلى هيئة في المؤسسات الدينية الإباضية، رفض تجنس الإباضيين بالجنسية الفرنسية، بدليل أن الكثير من أبنائهم كانت لديهم فرص للالتحاق بالجامعات الفرنسية، غير أنهم رفضوا ذلك، إضافة إلى أن العائلات الميزابية كانت ترفض تقديم الفدية والمعونات المالية للإرهابيين أثناء العشرية السوداء التي كادت تعصف بالمجتمع الجزائري، وهي أمور موثقة لدى مصالح الأمن بعد رسائل كان قد وجهها البعض من عناصر الجماعات المسلحة إلى عائلات ميزابية لدفع أموال مقابل عدم إلحاق الأذى بها، غير أنها أعلمت مصالح الأمن ورفضت تقديم الأموال، زيادة على عدم ورود أسماء إباضيين تورطوا في عمليات إرهابية أو تخريبية على مر السنوات.ومن جهة أخرى، زارت “الخبر” إحدى المدارس الخاصة بالإباضيين، وتم الإطلاع على مناهج تعليم التلاميذ، حيث يتم التركيز على اللغة العربية وعلومها من نحو وإعراب وبلاغة وغيرها، إضافة إلى علوم القرآن الكريم، فيما تكون لغة الحديث والتحاور باللهجة الميزابية. وأكد مرافقنا من عائلة باجلمان، أن الثقة والمصداقية التي تتمتع بها جريدة “الخبر” هي ما ولّد في أنفسهم الرغبة في إطلاعنا على كل هذه الحقائق من أجل إيصالها إلى كل الجزائريين، مؤكدين بأنهم لم ولن يفكروا في التفرقة بين الجزائريين مهما كان الأمر، لأن الوحدة الترابية ووحدة الأمة الجزائرية، عقيدة تولد مع كل جزائري، سواء أكان ميزابيا أو ترڤيا أو قبائليا.. وهي خط أحمر.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات