مع تواصل أزمة ندرة أكياس الحليب وغيابه عن المحلات مؤخرا في العديد من أحياء العاصمة وباقي الولايات، اكتشف الجزائريون من جديد مواقف ومشاهد طلَّقوها منذ عقود، على الأقلبالنسبة للمواد الغذائية، بعد أن أصبح الحليب يوزع بالواسطة وتحت الطاولة. عندما تصحو قبل أن يتبيَّن الخيط الأبيض من الأسود من الفجر ومع صياح الديك، وتُسابق الجميع للوصول إلى محل المواد الغذائية حتى تفتك كيسا أو كيسين على أكثر تقدير من حليب “الدولة” إن كنت محظوظا ولم يفاجئك صاحب المحل بأن الكمية نفدت، وأنت تراها مكدسة بأم عينيك، فأنت بذلك تعود إلى عهد طوابير “أسواق الفلاح” التي طواها الزمن ونسيناها منذ أكثر من عقدين.لكنها مشاهد حقيقة تصنع يوميات الكثير من الجزائريين في الأيام الأخيرة في العاصمة وعدد من الولايات، وهو ما وقفنا عليه في الأحياء التي زرناها في العاصمة، حيث ينفد الحليب حتى قبل أن يصل إلى المحل، والسبب أن الزبائن “يهجمون” على الشاحنة قبل تفريغ حمولتها، وقبل وصول الزبائن المحظوظين.فبحي “لابروفال” في القبة، يضطر الكثير من المواطنين للتنقل إلى حي المنظر الجميل على السادسة صباحا من أجل اقتناء الحليب، وهو حال الحاج أحمد شيخ في عقده السادس التقيناه في جولتنا التي بدأت على الساعة التاسعة صباحا. حسبناه وقتا مبكرا لكنه لم يكن كذلك بالنسبة لمحدثنا.سألناه إن وصلت أزمة الحليب إلى حيهم وإن كان في إمكاننا الظفر بكيس، فرد مبتسما “يا بنتي أنا من سكان الحي وما صحليش، مع أني قدمت إلى المحل مباشرة بعد صلاة الفجر”، وأضاف أنه اضطر للانتقال إلى حي المنظر الجميل مشيا على الأقدام نصف ساعة ذهابا ومثلها إيابا لاقتناء كيسين فقط من الحليب، لأن الكمية نفدت من محل الحي وصاحب المحل نسي أن يترك له نصيبه مثل العادة، ليواصل “والله فكروني في الثمانينات و5 أكتوبر..والله عار”.رحلة البحث عن الحليب تبدأ مع الفجرالوضع نفسه وقفنا عليه في باش جراح، حيث تصادف تواجدنا في المكان مع وصول شاحنة الحليب، ليتدافع الجميع من أجل الظفر بنصيبهم منه، وقبل أن أكلمهم استوقفتني أحاديثهم، فأحدهم راح يقول إنه اضطر في الأيام الماضية لاقتناء حليب العلب، وبالتالي حرمان أطفالهم من الكمية المعتادة من هذه المادة الأساسية بسبب غلاء ثمنه، لأن إمكانياته لا تسمح بذلك. فيما راح آخر يتحدث عن الامتيازات التي يمنحها صاحب المحل لزبائن خاصين جدا، يخصهم بـ6 أكياس على الأقل، “جات غير علينا”.والمضحك المبكي أنك تقف شاهدا على مواقف لا نراها إلا في البلدان التي تشهد حروبا وأزمات أمنية بسبب التدافع والطوابير وحتى المشاجرات والمشاحنات، مثلما يقول أحد الذين تحدثنا إليهم في باش جراح “بالأمس فقط نشب شجار بين صاحب المحل وزبون ليس من أبناء الحي، طلب اقتناء كيسين فرد عليه صاحب المحل أن الكمية نفدت، رغم أن 3 صناديق معبأة كانت موضوعة أمامه، الزبون فهم أنها محفوظة لزبائن خاصين من أبناء الحي، فنشب بينهما شجار كاد يتحول إلى ما لا تحمد عقباه لولا تدخل المتواجدين في المكان لفضه”.الأمر لم يختلف في شارع دودو مختار بحيدرة، فالحي الذي تحيط به السفارات من كل جانب والفيلات الراقية التي لا تعترف بحليب “الصاشيات”، فيما لم ينل السكان المغلوبون على أمرهم من اسم حيهم إلا “الشيعة” فقط مثلما يقولون، فتجدهم يتنقلون يوميا بعد صلاة الفجر مباشرة إلى حي مالكي المجاور لاقتناء الحليب. وهو حال رب أسرة موظف بسيط في مؤسسة خاصة، ذكر أنه يضطر يوميا للتنقل إلى حي مالكي لاقتناء الحليب مع بزوغ الفجر.ويواصل محدثنا متحسرا “إمكانياتي لا تسمح لي باقتناء حليب العلب ولا علب مسحوق الحليب، لو تعلق الأمر بي أو بزوجتي فقط ما كنت اقتنيته لكني أشتريه فقط من أجل أطفالي أحتمل هذا الذل.. مرمدونا وبهدلونا.. ثم ينتظرون منا دعم العهدة الرابعة. حسبنا الله ونعم الوكيل”.الحقيقة المرّةوسط كل هذه المشاهد، تضيع الحقيقة المرة التي يرددها المسؤولون دون حرج أو حياء، ودون أن يشيروا بأصابع الاتهام الى المتسبب في هذه “البهدلة” في بلد بترولي ينفق سنويا مليار دولار على فاتورة استيراد غبرة الحليب، وترمي مئات الطلبات المقدمة من طرف أبناء الوطن للاستثمار في هذا القطاع الاستراتيجي، خاصة أن كافة العوامل والشروط التي يستلزمها متوفرة، من مساحات الرعي الشاسعة وسياسة الدعم المالي.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات