إن مصالح العباد متداخلة ومتشابكة؛ إذ لا تتحقق إلا بتعاونهم وتبادلهم ما في أيديهم. وباتخاذ بعضهم بعضا سخريا، بأوجه المعاملات والتصرفات المختلفة، كانوا أكثر عرضة للخصومات والمنازعات بسبب تنكر بعضهم لحقوق بعض، وإبخاس أشياء بعضهم بعضا، أو عدم القدرة على استيفاء شروط الالتزام، أو عدم القدرة على أداء الحق الواجب تجاه الغير. فإِنه إذا ما حفظت الأموال لأهلها، والأعراض على أصحابها، والحرمات على ذويها، فلا يبقى مجال لأن يعتدى إِنسان على أخيه، ويحصل هذا بتوثيق تلك الحقوق والمعاملات؛ لأن هذا النوع من الإِجراءات يعدّ من أعظم وسائل بث الثقة بين المتعاملين، وهذا من شأنه تكثير العقود المالية ودوران دولاب التمول، وتنظيم حياتهم الاجتماعية وعلاقاتهم الأسرية في إطار تبادل المنافع، وحسم النزاع والخصام اللذين تكثر دواعيهما في حياتهم.ولعل أبرز ما تظهر فيه أهمية التوثيق وضرورته الملحة، في قطع المنازعات وحسم مادة الخصومات، حالة وفاة أحد طرفي العقد، أيًا كانت طبيعته، سواء من قبيل المعاملات أو المناكحات أو غيرها، كوفاة أحد الشريكين، أو عامل القراض، أو الوصي، أو الواهب وغيرهم. فإِنه في هذه الحال، تبقى الوثيقة الضامن الوحيد لتلك الحقوق، ولولاها لما تمكن أحد من حقه إذا أنكر الطرف الآخر وجود شيء من ذلك.ولأجل هذا المعنى، شُرع التوثيق في المعاملات والتصرفات المالية والأحوال الشخصية وباب الأنساب وغيرها؛ لأنه وسيلة لقطع مادة الظلم والارتياب بين أفراد المجتمع ومسلك لإِشاعة الأمن فيه، وبهذا تكون سبل إصلاح ذات البين التي حرص الإِسلام على بنائها وتدعيمها، ممهدة وسالكة.وفي عقد هذه المعاني، ينتظم هذا العمل الذي قام به الدكتور عبد اللطيف أحمد الشيخ من خلال كتابه الموسوم بـ«التوثيق لدى فقهاء المذهب المالكي بإِفريقية والأندلس من الفتح إلى القرن الرابع عشر الهجري”، وأصل الكتاب أطروحة دكتوراه الدولة نوقشت بجامعة الزيتونة بتونس وهو كتاب فريد في بابه، عظيم في نسجه؛ حيث سعى مؤلفه لدراسة حركة التوثيق وعمل الموثقين بالغرب الإسلامي خلال أربعة عشر قرنا.ومما لا شك فيه أن تحقيق هذه الغاية يتطلب من صاحبها جهدا جبارا، يقوّي عزيمته في تتبع الكم الهائل من المؤلفات التي يتطلبها الموضوع، والمتوزعة بين كتب التوثيق والفقه والتراجم والأعلام والتاريخ وغيرها من المصادر والمراجع المساعدة، وكذا المخطوطات الخاصة بعلم التوثيق المنتشرة في مكتبات العالم وعددها أكبر بكثير مما طبع منها.والذي يبدو من خلال هذا العمل أن المؤلف قد سلم بهذا الأمر، فراح يتتبع تلك المؤلفات، ويبحر في استطرادات مؤلفيها، جامعا شواردها، ومقيّدا أوابدها، وهو ما يتضح لنا من خلال قائمة المصادر والمراجع التي رجع إليها المؤلف؛ حيث بلغت 289 مصدر ومرجع يوجد من بينها 51 مخطوطا، ما شكل مادة غزيرة أفضت على الكتاب الجدة والطرافة. وقد توزعت مادة الكتاب على أربعة عشر فصلا في خمسة أبواب وستة عشر ملحقا، تضمنت مجموعة من الوثائق المتنوعة التي شملتها الدراسة، حيث تناول في الباب الأول: ماهية التوثيق وأصل تشريعه ونشأته وأنواعه، مع بيان أهميته وفائدته للناس في معاملاتهم وتصرفاتهم، ثم عرّج فيه على صلة التوثيق بالعلوم الأخرى التي يحتاج إليها الموثق في كتابه الوثيقة. أما الباب الثاني، فجعله في كتابه الوثائق والأحكام المتعلقة بها، فتحدث فيه عن كيفية كتابة الوثائق والطريقة التي يحصل بها ذلك، ثم تحدث عن الكيفية التي توضع بها شهادة الشهود في الوثيقة حتى تكون حجة عند القضاء، ثم عرّج على الأشياء التي ينبغي مراعاتها في كتابة الوثائق، مختتما الباب بالكلام عن الأسباب التي تدفع الناس لكتابة الوثائق، مع بيان دقتها وحجتها عند القضاء. وقد خصص الباب الثالث للحديث عن الموثق وأحكامه، وتعرض فيه لوظيفة الموثق وتصنيفها، مع بيان أحكام الموثق والآداب التي ينبغي عليه التحلي بها. وخصص الباب الرابع للكلام عن أطوار التوثيق، وركز فيه المؤلف على كتب التوثيق، وبخاصة المخطوطة منها، فقدم عرضا عن كل واحدة منها، والمادة العلمية التي تحتويها، وأماكن وجودها في المكتبات العالمية، مع عقد مقارنة في بعض الأحيان بين نسخ المخطوط الواحد إذا كانت من مكتبات مختلفة. أما الباب الخامس، فقد خصصه لتراجم الموثقين في الغرب الإسلامي، وقد أحصى عددا كبيرا منهم، معتمدا في ذلك على استقراء كتب التراجم وكتب التاريخ، وبخاصة التي لها علاقة بمنطقة الغرب الإسلامي.والذي يمكن قوله في هذا الكتاب إنه موسوعة في تاريخ علم التوثيق ورجاله في الغرب الإسلامي، ينبغي على كل مكتبة أن تحوزه لتنمية أوعيتها الثقافية وتراثها المعرفي، فالكتاب جهد يستحق التقدير، وأثر يذكر فيشكر.* مدير تحرير مجلة “آفاق الثّقافة والتّراث”
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات