قد يكون من أهم وأوضح السلبيات المنتشرة بيننا والتي نعاني منها: عدم تحمل مسؤولية الأخطاء، ورمي المسؤولية على الغير: أشخاصا أو ظروفا أو أحوالا أو غير ذلك. يظهر ذلك جليا على المستوى الشخصي، وعلى مستوى المجتمع، بل على مستوى الأمة أيضا!.إن العواصف الزعازع التي تعصف بالأمة إنما هي بفعل المؤامرات الخارجية، والانحرافات والفساد المجتمعي سببه أن (الشعب ماشي مربي!)، وكأن القائل من كوكب آخر!، وليس من هذا الشعب!، ولكن لا بأس أن يقوم هو بذات الأمور التي ينكرها على غيره، ويسب الشعب كله من جرائها إذا كان فيه مصلحته ومنفعته!. والفشل الشخصي مرده بلا شك إلا الظروف غير المواتية أو عين الحاسدين المتربصة!. وهكذا يتكرر الفشل، وبقدر ما يتكرر (يبرر)!، وتبقى الحال هي الحال في انتظار فشل آخر، و(تبرير آخر) وتسويغ جديد!.ولا ريب أنه مع هذا المنطق المعوج وهذا المسلك المنحرف لن يحدث إصلاح ولا تجديد ولا تغيير، فما دام سبب الفشل عند الآخرين -ولا سلطان لنا عليهم، ولا قدرة لنا في مواجهتهم- فستبقى حالنا على ما هي عليه!، وبدل أن نبذل جهودنا في إبداع طرق جديدة لتحسين الأوضاع وإصلاح ما يمكن إصلاحه، سنبذل جهودنا لتسويغ ما لا يسوغ، و(تبرير) ما لا (يبرر) !.فإذا رجعنا إلى القرآن العظيم نجده يهدم هذا المنطق المتماوت، وهذه النفسية الانهزامية، وهذا الموقف السلبي. فبعد غزوة أحد وما يحدث فيها من انكسار للجيش المسلم، نزلت آيات الذكر الحكيم مربية ومعلمة للصحابة الكرام ولمن تبعهم من المسلمين إلى يوم الدين، ومنبهة لهم إلى سنن الله في كونه، وسنن الله في نصره، وكان مما نزل من ذلك، قول الحق تقدست أسماؤه: {أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير}. والآية صريحة واضحة حاسمة: {قل هو من عند أنفسكم}، قال الطبري رحمه الله: أي “قل لهم: أصابكم هذا الذي أصابكم من عند أنفسكم، بخلافكم أمري وترككم طاعتي، لا من عند غيركم، ولا من قبل أحد سواكم”. وقال سيد في ظلاله رحمه الله: “{قل هو من عند أنفسكم}.. أنفسكم هي التي تخلخلت وفشلت وتنازعت في الأمر. وأنفسكم هي التي أخلت بشرط الله وشرط رسوله صلى الله عليه وسلم وأنفسكم هي التي خالجتها الأطماع والهواجس. وأنفسكم هي التي عصت أمر رسول الله وخطته للمعركة.. فهذا الذي تستنكرون أن يقع لكم، وتقولون: كيف هذا؟. هو من عند أنفسكم، بانطباق سنة الله عليكم، حين عرّضتم أنفسكم لها. فالإنسان حين يعرّض نفسه لسنة الله لا بد أن تنطبق عليه، مسلما كان أو مشركا، ولا تنخرق محاباة له، فمن كمال إسلامه أن يوافق نفسه على مقتضى سنة الله ابتداء! {إن الله على كل شيء قدير}..”.فهؤلاء خير الخلق بعد الأنبياء يخاطبهم القرآن الكريم مباشرة: {قل هو من عند أنفسكم}، ويحملهم المسؤولية كاملة، ولا يترك لهم هامشا للتبرر والتسويغ، مع ما كانوا عليه من صلاح وإصلاح، وما بذلوه من جهد وجهاد!. فكيف بغيرهم؟، ممن هم دونهم قطعا، أليس حريا بهم أن يقولوا: هو من عند أنفسنا!. بدل الجري وراء الأعذار الواهية، وتحميل الغير المسؤولية!.وصدق الشيخ سيد طنطاوي رحمه الله حين علق على هذه الآية الكريمة بقوله: “وما أحوج الناس في كل زمان ومكان إلى الأخذ بهذا الدرس، فإن كثيرا منهم يقصرون في حق الله وفي حق أنفسهم وفي حق غيرهم، ولا يباشرون الأسباب التي شرعها الله للوصول إلى النصر.. بل يبنون حياتهم على الغرور والإهمال، فإذا ما أصابتهم الهزيمة مسحوا عيوبهم في القضاء والقدر، أو في غيرهم من الناس.. وما دروا لجهلهم وغرورهم أن الله تعالى قد جعل لكل شيء سببا. فمن باشر أسباب النجاح وصل إليها بإذن الله ومن أعرض عنها حرمه الله تعالى من عونه ورعايته”.*إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات