هل يقدر البشر على الصمود في حرب من الله ورسوله؟!، محال!، فالإنسان ضعيف إلى حد لا يمكنه أن يتصوره: {وخلق الإنسان ضعيفا}!، والإنسان يعلم هذا من نفسه، فهو عاجز عن إنجاز أشياء كثيرة لولا استعانته بالآلة، وهو أعجز عن القيام بأشياء أكثر حتى وإن استعان بالآلات!، بيد أن الإنسان يجمع المتناقضات، فهو ضعيف يشعر بضعفه ويعلم به علم اليقين، وهو طاغٍ، سريع إلى الطغيان شديده عند شعوره بالغنى والقدرة، وهذه صفة خطيرة؛ لذا نبها عليها القرآن الحكيم في أول آياته نزولا: {كلا إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى}، ولن يخفف من غلواء هذا الطغيان إلا الإيمان بالله واليوم الآخر؛ ولذلك قال الحق سبحانه بعد تينك الآيتين: {إن إلى ربك الرجعى} تذكيرا للإنسان بمعاده المحتوم حتى لا يغتر بمعاشه المأزوم!.إن من أبرز مظاهر عجز الإنسان عجزه الظاهر عن معرفة مآلات اختياراته وقراراته، يظهر هذا في حياة الأفراد، لكنه يظهر أكثر وأكبر في حياة الأمم، وعبثا تجهد البشرية وتلهث سعيا لتفادي الأزمات مسخرة كل ما أمكنها تسخيره من علم ومعرفة وتكنولوجيا ومقدرات، ولكن النتيجة واحدة أزمة تتلوها أزمة أو قل: أزمات تتبعها أزمات في كل المجالات وعلى كافة الصعد، حتى لو أردنا وصفا مختصرا لتاريخ البشرية لقلنا: التخبط في دوامة أزمات!، ولو أردنا وصفا مختصرا لواقع الناس لقلنا: التخبط في دوامة أزمات أيضا!. وما ذلك إلا من نتائج الضلال عن هدي الله المبين، إذ يقول سبحانه: {فمنِ اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى * ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا}، وها هي البشرية في عمومها معرضة عن هدي الله تعالى، وها هي البشرية أيضا تعيش ضنكا اجتماعيا، وضنكا أخلاقيا، وضنكا سياسيا، وضنكا معرفيا، وضنكا تربويا، وضنكا ثقافيا، وضنكا اقتصاديا... ولن يخفف من عناء البشرية إلا اهتداؤها بهدي السماء، فالدنيا دار ابتلاء وليست جنة؛ ولذا لا تخلو من مشاكل وأزمات، وإنما المتاح هو التخفيف من شدة هذه المشاكل والأزمات باتباع الصراط المستقيم، وقد وجدنا الله العزيز الحكيم في كتابه العظيم يذكر الإنسان بضعفه المعلوم بتلطف جليل، فيقول تبارك وتعالى: {والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما * يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا}، فاتباع هدي الله تعالى هو سلوك لسبيل التخفيف، واتباع مسلك تجار الشهوات هو ميل عظيم، نهايته هاوية مظلمة، وقارعة مهلكة: {والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون}.ولنحصر الكلام في الجانب الاقتصادي، فأزماته هي الأظهر أثرا عند الناس؛ لأنها الأكثر عضا لهم!، والأكثر ضغطا عليهم!.. إننا نعلم جميعا أن السمة البارزة في النظام الاقتصادي العالمي هي التأزم، فنحن لا نخرج من أزمة إلا انتظارا للأزمة المقبلة، فقبل أن يتعافى الاقتصاد العالمي من آثار الأزمة السابقة تكون نذر الأزمة اللاحقة قد حلت وحطت!، وما ذلك إلا بسبب قيامه على الظلم الفاحش والاستغلال الفظيع، حيث يزداد الأغنياء غنى، والفقراء فقرا، ويزداد الأغنياء رفاهية وتبذيرا ويزداد الفقراء شقاء وتعاسة، وحيث تستحوذ نسبة قليلة من الدول الغنية على النسب الأكبر من ثروات البشرية، ولا تظفر الكثرة الكاثرة من الدول إلا على النسبة الأصغر منها، والحال نفسه داخل كل دول العالم، فالعدد الأقل من الأثرياء والمتنفذين يستحوذون على القدر الأكبر من ثروة الشعب، والعكس بالعكس!.إن نقطة الارتكاز وبؤرة الشؤم في هذا النظام الاقتصادي المجرم التي سببت كل هذا البلاء هي الربا، نعم إن النظام الربوي هو الذي أدخل الاقتصاد العالمي دوامات الأزمات، فصار يتخبط بين أزمة وأخرى، تماما كما قال الحق سبحانه: {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا}، وها هي البشرية تتخبط في أزمات: الغلاء، والتضخم، والركود، وإفلاس الدول.. إلخ، وتمسك قلبها شفقا من انهيار النظام العالمي الاقتصادي عامة والمصرفي خاصة كالذي يتخبطه الشيطان تماما، فيحبس عليه أنفاسه، وينغص عليه معيشته، ويقتل فيه الأمل والرجاء.للأسف أن كثيرا من الناس يستهينون بخطورة الربا وخطورة آثاره، مهما لاحت أمامهم الأدلة ووضحت البراهين، وما ذلك إلا بسبب الجهل والغرور: {ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون}، ولو فكر المسلم مليا لعلم أن الآثار المدمرة للربا لا يمكننا الإحاطة بها؛ ولهذا شدد الله تعالى في تحريمها ما لم يشدد في تحريم غيرها من الكبائر، فقال سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين * فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله}، “يا للهول! حرب من الله ورسوله.. حرب تواجهها النفس البشرية.. حرب رهيبة معروفة المصير، مقررة العاقبة.. فأين الإنسان الضعيف الفاني من تلك القوة الجبارة الساحقة الماحقة؟!”، إنه لأمر جلل أن يؤذن الجبار عز شأنه البشر الضعفاء بحرب!، يقول سيد رحمه الله: “فهذه الحرب معلنة -كما قال أصدق القائلين- على كل مجتمع يجعل الربا قاعدة نظامه الاقتصادي والاجتماعي. هذه الحرب معلنة في صورتها الشاملة الداهمة الغامرة. وهي حرب على الأعصاب والقلوب. وحرب على البركة والرخاء. وحرب على السعادة والطمأنينة.. حرب يسلط الله فيها بعض العصاة لنظامه ومنهجه على بعض. حرب المطاردة والمشاكسة. حرب الغبن والظلم. حرب القلق والخوف.. وأخيرًا حرب السلاح بين الأمم والجيوش والدول”. فهل يعي المسلمون هذه الحقيقة الناصعة أم سنبقى في عداد الغافلين؟!.* إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات