لا شك أن الحضارة المادية التي تسيطر على عالمنا في زمننا هذا، تؤثر فينا، في ميولاتنا، في أفكارنا، في قناعاتنا، في نظرتنا للحياة... الخ؛ لذلك لم يعد عجيبًا أن تسمع من بعض الناس همهمة حول كل كلام يتعلق بالغيب، أو أن تجد صدودًا ونفورًا عن كل حديث حول الإيمان بالغيب.لقد غلّف الإيمان بالمحسوس قلوب بعض، وسد أذانهم، وغشى أعينهم! فغابت عنهم الحقيقة التي يعيشونها ويعيشون بها: حقيقة أن وراء عالمنا المحسوس عالمًا غيبيًا عظيمًا. هذه الحقيقة التي لا ينكرها إلا جاحد معاند مكابر: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوًا}، وهل يمكن لعاقل أن يتجاوز حقيقة الروح التي تضطرب بين جوانحه وهي أعظم الدلائل على عالم الغيب: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد}.لا جرم أن كان الكلام على الغيب في أوائل المصحف الشريف ومفتتح أكبر سور القرآن الكريم، حتى يواجهها المسلم حين يتلو كتاب الله تعالى: {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين * الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون * والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون * أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون}. قال بعض العلماء تعليقا على هذه الآية: خص بالذكر الإيمان بالغيب دون غيره من متعلقات الإيمان؛ لأن الإيمان بالغيب هو الأصل في اعتقاد إمكان ما تخبر به الرسل عن وجود الله والعالم العلوي، فإذا آمن به المرء تصدى لسماع دعوة الرسول وللنظر فيما يبلغه عن الله تعالى فسهل عليه إدراك الأدلة، وأما من يعتقد أنه ليس من وراء عالم الماديات عالم آخر، فقد وطن نفسه على الإعراض عن الحق كما هو حال الماديين الذين يقولون: {ما يهلكنا إلا الدهر}، والإيمان بالغيب: يستلزم التصديق به على وجه الجزم، وهو لا يحصل إلا عن دليل.ولا شك أن قيام البراهين على صدق من أخبر بالغيب يجعل المؤمن بهذا الغيب مصدقا عن دليل، لا كما يتوهمه البعض من أن المراد بالإيمان بالغيب التسليم الأعمى بدون دليل أو نظر أو برهان مما يؤدى إلى اعتقاد الخرافات والتصديق بالأوهام، كما يقول النصارى: أغلق عينيك واتبعني!، فقد نهينا عن مثل هذا الإيمان الضعيف المتهافت، وقد أمرنا بتقدير نعمة الله علينا بالإدراك والعقل، وأن لا نخضع إلا للبرهان والحجة: {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين}. بل اعتبر الإسلام ُالتفكر عبادة من أجل العبادات الموصلة إلى معرفة الخالق جل وعلا وكمال الإيمان به، وجعل العقل مناط التكليف، ومدار الثواب والعقاب، وتردد ذكره في القرآن الكريم أكثر من أربعين مرة مقرونا بالحث على استخدامه فيما خلق له، فلا يمكن أن يكون معنى الإيمان بالغيب تشجيع الاستسلام للأوهام بدون نظر أو برهان. كما يفهمه ذوي العقول السقيمة والأفهام السخيفة!إن الإيمان بالغيب مهم للإنسان حتى يعيش إنسانا سويا منسجما مع نفسه وفطرته، يقول سيد رحمه الله: “والإيمان بالغيب هو العتبة الّتي يجتازها الإنسان، فيتجاوز مرتبة الحيوان الذي لا يدرك إلا ما تدركه حواسه، إلى مرتبة الإنسان الذي يدرك أن الوجود أكبر وأشمل من ذلك الحيز الصغير المحدد الذي تدركه الحواس... فليس من يعيش في الحيز الصغير الذي تدركه حواسه كمن يعيش في الكون الكبير الذي تدركه بديهته وبصيرته ويتلقى أصداءه وإيحاءاته في أطوائه وأعماقه، ويشعر أن مداه أوسع في الزمان والمكان من كل ما يدركه وعيُه في عمره القصير المحدود. وأن وراء الكون ظاهره وخافيه، حقيقة أكبر من الكون”.نعم إن الإيمان بالغيب وتجاوز هذا الواقع المحسوس والمادة المشاهدة هو الذي يرقى بالإنسان، ويرتقي بحياته إلى كرامة القيم الجليلة والحياة الطاهرة الفضيلة، وإلا هوى مع الطين إلى براثين الحيوانية والغرائزية والشهوانية، ورحم الله الإمام المجدد اللوذعي محمد الغزالي رحمه الله حيث يقول: “والواقع أن الإنسان المرتبط بالدين، هو الذى يحس نعمة الوجود، ويدرى دراية مطمئنة من أين جاء؟ وإلى أين يصير؟. أما الشخص المادي البحت الذى يؤمن بجسد لا روح معه، ودنيا لا آخرة بعدها، فهو مبتور الحس، مشوه البصيرة، وفكرته عن الحياة تهوي بقيمة البشر إلى حضيض بعيد”.*إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات