توالي الأعوام عبرة للمتذكرين وتنبيه للغافلين

+ -

ها قد ودعنا عامًا مضى من أعمارنا، وها نحن نستقبل عامًا جديدا، فليت شعري ماذا أودعنا في العام الماضي، وبماذا نستقبل عامنا الجديد! ورد عن الحسن البصري قوله: “لم يزل الليل والنهار سريعين في نقص الأعمار وتقريب الآجال، هيهات قد صحب نوحًا وعادًا وثمودًا وقرونًا بين ذلك كثيرًا، فأصبحوا قد قدموا على ربهم، ووردوا على أعمالهم”.إن في توالي الأعوام عبرة وتذكرة للمتذكرين، وفي أفول الأزمنة آيات للمتبصرين، سنوات تمضي على العباد، وأيام وشهور تنقضي من الأعمار، والعاقل من جعل هذه الآيات سبيلا للتفكر وميدانًا رحبًا للتبصر. والمؤمن الكيّس الحصيف هو الذي يحاسب نفسه ويتداركها، فإن كان مستقيما فليحمد الله، وليسأل مولاه الثبات: “إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء”، ومن دعائه صلى الله عليه وسلم: “اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك”، ومن كان منا مقصرًا فليتدارك وليبادر إلى التوبة والإنابة. يقول الفاروق رضي الله عنه: “حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني”.إن عمر الإنسان مهما طال فلن يتجاوز عشرات معدودة من السنين، سيسأل المرء عن كل جزئية، بل إن هذا من أصول الأسئلة التي توجه له يوم القيامة: “لن تزول قدمَا عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن شبابه فيما أبلاه، وعن عمره فيما أفناه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيما أنفقه”، فيسأل عن عمره على وجه العموم، وعن شبابه على وجه الخصوص، لأن الشباب هو محور القوة والنشاط، وعليه الاعتماد في العمل والإنتاج أكثر من غيره من مراحل العمر، وهذا الزمن من أفضل نعم الله على عباده، عند البخاري: “نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ”، والغبن أن يشتري الإنسان سلعة بأضعاف الثمن، فمن صح بدنه وتفرغ من الأشغال العالقة به ولم يسع لإصلاح آخرته يقال عنه: رجل مغبون، وفي الحديث إشارة إلى أن الزمن نعمة كبرى لا يستفيد منها إلا القليل، وأما الكثير فمفرط ومغبون: “اغتنم خمسًا قبل خمس: حياتك قبل موتك، وفراغك قبل شغلك، وغناك قبل فقرك، وشبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك”.يقول ابن القيم: “الوقت منقض بذاته، منصرم بنفسه، فمن غفل عن نفسه تصرمت أوقاته، وعظم فواته، واشتدت حسراته، فكيف حاله إذا علم عند تحقق الفوت مقدار ما أضاع، وطلب الرُّجعى فحيل بينه وبين الاسترجاع... إلى أن يقول: “إن الواردات سريعة الزوال تمر أسرع من السحاب، وينقضي الوقت بما فيه فلا يعود عليك منه إلا أثره وحُكمه، فاختر لنفسك ما يعود عليك من وقتك، فإنه عائد عليك لا محالة، ولهذا يقال للسعداء: {كلوا واشربوا هنيئًا بما أسلفتُم في الأيام الخالية}، ويقال للأشقياء: {ذلكم بما كنتم تفرَحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرَحون}”. ويقول الإمام الشافعي رحمه الله: “صحبت الصوفية، فما انتفعتُ منهم إلا بكلمتين سمعتهم يقولون: الوقت سيف، فإن قطعته وإلا قطعك، ونفسك إن لم تشغلها بالحق أشغلتك بالباطل”.* إمام وأستاذ بجامعة العلوم الإسلامية - الجزائر1

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات