الأمم بين فتح البركات وفتح أبواب كل شيء!

+ -

 كثيرا ما يتزلزل أناس تأثّرًا بالواقع، فتأثير الواقع على الإنسان في قناعاته وتوجهاته أقوى وأشدّ من أظهر حجّة وأوضح دليل، فلا جرم أن وجدنا كثيرا من الناس يؤمنون بأفكار يحسبونها الحق، ويتخذون مواقف يظنونها الصواب، وينتهجون سلوكا يخالونه السداد، ويعيشون نمط حياة يتوهمونه النعيم أو مُنتهى النعيم... ولا يُسألوا أنفسهم، هل حقا هذا هو الحق والصواب والسداد والنعيم؟!إن صورة الواقع عادة ما يرسمها المتغلب الوقتي، وواقعنا يهيمن عليه الغرب واقعيا وافتراضيا؛ لذلك صار الحق والصواب والسداد والنعيم عند كثير من الناس هو ما يستحسنه الغرب وينتهجه،وضد هذه الأمور هو ما يستهجنه الغرب ويعاديه! دون تفكير ولا نظر، ولا دليل ولا برهان! وهذا تقليد أغبى مقيت، ضل بسببه كثيرون، وانتشرت بسببه علل وأدواء وانحرافات وضلالات! ويا ليت صرعى الواقع هؤلاء تذكّروا أن دوام الحال من المحال! ويا ليتهم علموا تاريخ البشرية وما شهده من صعود أقوام وهبوطهم، وارتفاع حضارات ونزولها! لاستيقنوا بذلك أن أجهل الناس وأغباهم من يجعل مرجعيته العليا في الحياة الواقع المتحرك، الذي سيتغير عاجلا أو آجلا.إن الظاهر في الغالب يكون مخادعا، وخاصة إذا كان في الحقيقة ظاهر واقع لا يكاد يستقر، ومآله التبدل والتغير: {وتلك الأيام نداولُها بين الناسِ}. وإن من أكثر ما فتن المسلمين في الزمن المعاصر ما يظهر من تباين بين واقع دول أمم الكفر والدول الإسلامية، حيث اغتر أكثر الناس بالرفاهية والازدهار والتطور في البلاد الغربية في مقابل ما تعانيه الدول الإسلامية من تخلف مريع، ولا شك أن هذا الوضع له أسبابه المعقدة المتعددة، التي يعرف الكثير منا الكثير منها كما يجهلون مثلها! ولست في مقام بيانها وشرحها فلذلك مقامات أُخر. وإنما أريد التنبيه على هداية قرآنية عظيمة في هذا الموضوع قد يغفل عنها بعض الناس، إذ الواجب على المسلم ابتداءً وانتهاءً أن يلتمس الهداية من القرآن العظيم، كتاب الهداية الأعظم في شأنه كله: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم}. وما كان القرآن الحكيم أن يتركنا هملا في مثل هذه القضية المصيرية.لقد وضع القرآن للمسلم منارةَ اهتداء في ما يتعلق بظاهر الواقع حتى لا يتأثر ولا ينخدع ولا يغتر في آيتين عظيمتين، يقول الله جل شأنه في الأولى منهما: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوْا لفَتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون}، فهنا وعد الله تعالى على الإيمان والتقوى بفتح البركات من السماء والأرض. والمقصود بفتح البركات أن تقبل عليهم الخيرات من كل جانب، وتشمل بركات السماء معارف الوحي وهدايته، ونور الشمس والمطر ونحوه مما يوجب الخصب والخير في الأرض، وبركات الأرض: الخصب والمعادن ونحوهما. والبركة هي ثبوت الخير الإلهي في الشيء.وقال في الثانية: {فلما نَسُوا ما ذُكِّروا به فتَحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرِحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون}. وهنا توعد الله عز شأنه على الكفر والإعراض عن الذكر بفتح أبواب كل شيء! من الرزق، وأسباب القوة، والنفوذ والمال والرفاهية والتكنولوجيا، والقوة العسكرية، والمُتع مما تشتهي أنفسهم، وتهوى أفئدتهم.. فالتعبير بأبواب كل شيء كناية عن إقبال الدنيا عليهم من جميع أقطارها بجميع ألوان نعمها، وبكل قوتها وإغرائها.فالظاهر واحد: توسيع أرزاق وتوالي نعم، ولكنه مع الإيمان والتقوى بركات من السماء، ومع الكفر والصدود فتح أبواب كل شيء!، والموفق من يفرق بين الحالين، ويميز بين الفتحيْن، ولا يغتر بالظاهرين. فإن {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} تشمل فيما تشمل: أبواب الجرائم، والمخدرات، والإدمان، والفجور، والفسوق، والاستغلال، والغلاء، والنهم الاستهلاكي، والانحلال، والميوعة، والإباحية، والشذوذ الجنسي، والزيغ عن الفطرة، والحروب، والقلق، والأمراض النفسية، والانتحار إلى آخر قائمة الأدواء والأمراض التي تعاني منها كل المجتمعات الغربية بنسب متفاوتة،وبمعدلات كارثية بحسب إحصائيات المنظمات الدولية. [يمكن لأي شخص الاطلاع على هذه الإحصائيات في مواقعها على الشابكة]. وإن كان (مكياج) القوة الاقتصادية والعسكرية والإعلامية لهذه الدول يحاول إخفاء هذه الصورة التعيسة، وتضليله الإعلامي استطاع أن يخادع أكثر الجماهير، ولكن الحقيقة تبقى هي الحقيقة وستظهر وإن طال الزمان، ونتيجتها محسومة: {حتى إذا فرِحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون}، قال سيد رحمه الله: “والتعبير القرآني: {فتحنا عليهم أبواب كل شيء} يصور الأرزاق والخيرات، والمتاع، والسلطان.. متدفقة كالسيول؛ بلا حواجز ولا قيود! وهي مقبلة عليهم بلا عناء ولا كد، ولا حتى محاولة! إنه مشهد عجيب؛ يرسم حالة في حركة، على طريقة التصوير القرآني العجيب. {حتى إذا فرحوا بما أوتوا} وغمرتهم الخيرات والأرزاق المتدفقة، واستغرقوا في المتاع بها والفرح لها - بلا شكر ولا ذكر - وخلت قلوبهم من الاختلاج بذكر المنعم ومن خشيته وتقواه، وانحصرت اهتماماتهم في لذائذ المتاع واستسلموا للشهوات، وخلت حياتهم من الاهتمامات الكبيرة كما هي عادة المستغرقين في اللهو والمتاع، وتبع ذلك فساد النظم والأوضاع، بعد فساد القلوب والأخلاق، وجرّ هذا وذلك إلى نتائجه الطبيعية من فساد الحياة كلها، عندئذ جاء موعد السنة التي لا تتبدل: {أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون} فكان أخذهم على غرة؛ وهم في سهوة وسكرة، فإذا هم حائرون، منقطعو الرجاء في النجاة، عاجزون عن التفكير في أي اتجاه. وإذا هم مهلكون بجملتهم حتى آخر واحد منهم”.هذه سنة من سنن الله تعالى في خلقه، وهي أنه يُمهل الضالين، وأن يزيدهم من العطاء الدنيوي، ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، وهي سنة عظيمة من سنن الله تعالى في الكون والخلق أكدتها آيات أخر: {فذَرهُم في غمرتهم حتى حين * أيَحْسَبُون أنما نُمِدُّهم به من مال وبنين * نُسَارِع لهم في الخيرات بل لا يشعرون}، {فذَرْني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون * وأملي لهم إن كيدي متين}، والحكمة من هذا الإملاء والتأخير، إضافة إلى ابتلاء المسلمين بذلك، يبينها قول الإمام الشعراوي رحمه الله: “فالمجتمعات حين تبتعد عن منهج السماء نجد الحق ينتقم منهم انتقاما يناسب جرمهم، ولو أنه أخذهم على حالهم المتواضع فلن تكون الضربة قوية؛ لذلك يوسع عليهم في كل شيء حتى إذا ما سلب منهم وأخذهم بغتة وفجأة تكون الضربة قوية قاصمة ويصيبهم اليأس والحسرة؛ ليكون الأَخذ أقوى وأعنف وأبلغ في الإيلام والحسرة.. فإذا رأيت لهم هذا الفتح فلا تغتر به، واعلم أنهم نسوا ما ذُكَّروا به”. وقد يقول قائل: هذا حال الكافرين قد تبين، فما بال حال المسلمين قد آمنوا واتقوا ولم تفتح عليهم بركات السماء والأرض؟ فأقول: الجواب واضح، فمسلمو اليوم مؤمنون بفضل الله ومنّه، ولكنهم مقصرون في التقوى، بما لا يخفى على أحد، ولو أننا آمنا إيمان صدق ويقين، واتقينا الله حق التقوى لفتحت علينا بركات من السماء والأرض، ولما عانينا جفافا ولا غلاء، وما هي إلا سنة الله الغالبة: {.. فلن تجِد لسُنَّتِ الله تبديلا ولن تجد لسُنَّت الله تحوِيل}.*إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات