لا تراه إلا وهو يمسك كتابا أو ينقح مخطوطا، تتجلى فيه مقولة الأميري.. ”لا تقل بلغت سبعيني.. جدد عطائك”، فهو تجاوز سبعينه بعشر، ويحتفل قريبا بشمعته الثمانين. تتمثل فيه حين تراه وتستمع إليه قول الشاعر:ملء السنابل تنحني تواضعا والفارغات رؤوسهن شوامخرافق النوابغ والمتفوقون بالمدرسة الفرانكوإسلامية في أربعينيات القرن الماضي، مثل الشهيد العقيد لطفي دغين ومحمد ديب والدكتور بريكسي وربيب علي وغيرهم. علّم في قرى ومدارس ومعاهد تلمسان ووهران، برع في ترجمة وتأليف عشرات الكتب العلمية الشرعية، واشتغل مترجما وموظفا مؤقتا بمكتبة مكة المكرمة في بلاد الحرمين. إنه الشيخ الجليل والمربي المتواضع الحاج عبد الغني حساين، الذي فتح بيته لقراء ”الخبر” في هذه الزيارة الخاصة. وُلد في بيئة محافظة تبجل العلم والعلماء في شهر جويلية من سنة 1934، بعاصمة الزيانيين تلمسان، كان الطفل عبد الغني في سنواته الأولى من عمر الطفولة، ولكنه روى لنا أن ذاكرته تحتفظ بالأجواء التي عقبت السنوات الأولى من تأسيس دار الحديث بتلمسان، وكيف كانت عائلته وأعمامه يستضيفون شيوخ جمعية العلماء ورواد الحركة الإصلاحية الذين كانوا يقصدون المدينة، درس المرحلة الابتدائية بمدرسة الأبي لي.. ليكول دي سيو.. في العهد الاستعماري. وقال لنا الشيخ عبد الغني إن الذي كان يجلب انتباهه وقتها هو وأقرانه داخل فصل الدراسة، ما كان يحكيه المعلم الفرنسي عن الغنى الفاحش لبعض ملوك العرب وكيف كانوا يطلبون من الأمريكان ترصيع سياراتهم بماء الذهب. وكان هذا الكلام محور نقاش بين التلاميذ في ساحة المدرسة، وهو ما شدّني للاهتمام بالبحث في تاريخ الدول العربية الناشئة بمنطقة الحجاز ومنها المملكة العربية السعودية، قال مضيفنا، في حين كان يعتبر بعض الزملاء أن ما كان يقوله المعلّم الاستعماري مجرد كذب لتشويه صورة العرب في المجتمع الجزائري.ويذكر الحاج عبد الغني بتواضع ممزوج بالاعتزاز أنه درس ورافق نوابغ المدينة وشرفاءها في المدرسة الفرانكوإسلامية في الطور الثانوي من حياته التعليمية، وكان معه في القسم الدراسي التلميذ الخلوق لطفي دغين بن علي، وهو بعدها العقيد والشهيد لطفي رحمة اللّه عليه، مثلما تظهره الصور التاريخية التي سلمها الحاج عبد الغني لـ«الخبر”.. وتظهر في الصورة شخصيات معروفة بعطائها الثوري والعلمي والتربوي أيام ثورة التحرير وبعد الاستقلال، مثل شقرون عمر وربيب علي والطبيب الجراح بريكسي جمال، والديب محمد من منطقة بني سنوس وهو غير الكاتب محمد ديب. ويتجلى تواضع الأستاذ عبد الغني في إشاراته بالقلم على الصور التذكارية، حين يشير إلى زميله الشهيد لطفي وغيره من نوابغ المدرسة الفرانكوإسلامية ويذكرهم بالاسم، في حين يكتب عن نفسه عبارة ”عبد ربه الضعيف”. وجاءت رواية الحاج عبد الغني حساين لـ«الخبر” وقصة وصية لطفي لأحد رفاق المدرسة بمدينة وجدة المغربية، للدلالة على عبقرية واستراتيجية الشهيد لطفي الذي يبق لغز مقتله واستشهاده على الحدود المغربية الجزائرية، في أواخر أيام ثورة التحرير، مطروحا للبحث والتقصي من قِبل المؤرخين المهتمين بتاريخ الثورة الجزائرية، حيث روى لنا محدثنا أن الدكتور بريكسي جمال التقى بالشهيد العقيد لطفي بمدينة وجدة المغربية، منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، وطلب منه الأخير إيصال رسالة إلى بعض زملاء الدراسة طالبهم فيها بعدم ترك مقاعد الدراسة للالتحاق بالثورة، وكان يتوسّم فيهم القدرة على النجاح والتفوق العلمي، وبالتالي المساهمة في بناء جزائر الاستقلال.وحين سألت ”الخبر” مضيفها إن كان يتذكر هذه الأسماء التي طلب منها العقيد لطفي عدم الصعود للجبل وعدم المجاهرة بدعم ثورة التحرير، ذكر لنا الأستاذ الفرنسي ميلكام، وكان من مؤيّدي الثورة، والعزوني محمد الذي شغل بعد الاستقلال مهام إدارية سامية وحسين سنوسي وخير الدين بن ديمراد، وكلهم كانوا من خيرة إطارات الاستقلال على قلّتهم، قال محدثنا، وبالتالي صدقت نبوءة وفراسة الشهيد لطفي. ومن عجائب تواضع ونكران عبد الغني حساين لذاته، أنه لم يذكر لنا أنه كان من بين الأسماء التي طلب منها العقيد لطفي مغادرة مقاعد الدراسة، إلى غاية نهاية الجلسة وبحضور ابنه زكرياء وأحد أصدقاء العائلة، حين طرحت عليه السؤال من جديد، هل كنت من بين الأسماء التي طلب منها العقيد لطفي عدم مغادرة مقاعد الدراسة؟ فأشار يهز رأسه بإشارة تقول أي نعم.. دون أن ينطقها وقد اغرورقت عيناه بالدموع، في درس بليغ من دروس الإخلاص ونكران الذات. كما أنه تحدّث للمرة الأولى في حضرة ابنه عن قصة محاولة قتله من قِبل جند الاستعمار بمدينة ديسكارت، بن باديس حاليا، وكيف هرّبه الأستاذ الفرنسي ميلكام في صندوق سيارته سنة 1957.سر الاهتمام والتفوق في اللغات والعلوم الشرعيةتأثر الشيخ عبد الغني حساين في المدرسة الفرانكوإسلامية في تلمسان بثلة من المدرّسين والأساتذة العرب، من أمثال سي قدور النعيمي من منطقة البيّض بالجنوب الجزائري ويقول عنه محدثنا إنه كان بارعا في اللغتين العربية والفرنسية، وكان، مثلما تظهره الصور التذكارية التي وضعها بين أيدينا، يحافظ على هندامه العربي الأصيل، وكان يتحدث الفرنسية بلغة راقية أبهرت حتى الفرنسيين، وهو ما أثّر في تلاميذه العرب، إضافة إلى الشيخ فوفة من البليدة وعبد الحميد مراد والشيخ الزردومي، وغيرهم من الأساتذة بالمدرسة التي كانت تمنع فيها الإدارة الاستعمارية كتب الفقه والدين. فانصب اهتمام الطلبة على دراسة الآداب واللغات، مع شوق كبير للعلوم الشرعية التي كانت تدرّسها مدارس جمعية العلماء وبعض المدارس الخاصة.وبتزكية من شيخه قدور النعيمي بدأ التدريس عشية الاستقلال وبعده في قرى ومدارس تلمسان، وفي سنة 1975 انتقل إلى مدينة وهران، فدرس في ثانوية البنات ثم المعهد التكنولوجي يغمراسن إلى غاية سنة 1988، ليختتم مساره المهني التربوي بالمعهد التكنولوجي للتربية ابن طفيل بتلمسان بعد 38 سنة من العطاء والتفاني في حب المهنة، وقد أحيل على التقاعد بمعاش شهري لا يتجاوز الثمانية آلاف دينار.وحين سألناه عن واقع المنظومة التربوية وأسباب تراجعها عن أداء وظيفتها الرسالية، أجاب الحاج عبد الغني حساين ”إن العمود الأساسي في أي منظومة تربوية هو المعلم.. وأنا أفكر في حال معلّم ليس له الوقت للوقوف في طوابير طويلة لتعبئة سيارته بالوقود وهو المطالب بالتواجد باكرا بمدرسته”، معتبرا أن تردي الظروف الاجتماعية للمعلّمين حال دون قيامهم برسالتهم، إضافة إلى طغيان الماديات على الحياة.. ”في وقتنا كانت هناك عبارة مشهورة عند الأولياء.. فكان ولي التلميذ يقول للمعلم أنت اذبح وأنا نسلخ.. ومعناه تفويض كلي للمعلم لتأديب التلميذ.وفي وقت الاستعمار ورغم يقيننا بظلم فرنسا واستعمارها كنا نطيع المعلم طاعة عمياء احتراما لعلمه”. وبعد إحالته على التقاعد تفرّغ الأستاذ عبد الغني لهوايته المفضلة.. التأليف والترجمة.يكرّمه علماء السعودية ومسؤولوها ولا تعرفه سلطات بلادهمنذ قرابة خمس سنوات سألني إطار مسؤول في جمعية ثقافية وطنية عن اسم عبد الغني حساين؟ وعلمت أنه يحمل إليه مجموعة من الكتب أودعها لديه الداعية السعودي الدكتور منقذ محمود السقار، ولكنه لم يستطع الوصول إلى عنوانه ومكانه.. إنه حال المخلصين من العاملين والمثقفين الذين لا يعرفون الوقوف على طوابير السلطان. ”إيضاح وتبسيط أسباب نزول القرآن الكريم”، ”الشعوب المعاصرة لسيد الخلق محمد صلى اللّه عليه وسلم وحضارتها”، ”هذا ما عاصره ملوك آل سعود ما بين 1726/1953”، ”الأسس الضرورية لقواعد اللغة العربية”، ”أبو عبيدة ابن الجراح رضي اللّه عنه”، ”نظرة سريعة في الكتاب المقدس”، و«أمهات المؤمنين”، هي عناوين لكتب ومؤلفات ألّفها الشيخ عبد الغني حساين، في حين ترجم ونقل من العربية إلى اللغة الفرنسية: ”توحيد المملكة العربية السعودية” للمرحوم الشيخ محمد المانع، ”تاريخ الحرمين الشريفين” لرئاسة الحرمين الشريفين، ”وصف الحج والعمرة”، ”شرح الصدور” للإمام الشوكاني، ”الأمة الوسط والمنهاج النبوي في الدعوة إلى اللّه” للدكتور عبد اللّه بن عبد المحسن التركي، ”هل بشّر الكتاب المقدّس بمحمد صلى اللّه عليه وسلم”، ”هل العهد الجديد كلمة اللّه”، ”هل اللّه واحد أم ثلاثة” للدكتور محمود السقار، ”دلائل الإسلام” للدكتور أحمد بن سعدان الغامدي.. وغيرها من الكتب والمخطوطات المترجمة بقلم الأستاذ عبد الغني حساين، الذي لا يعرفه من يدّعون العمل في مجالات الثقافة والفكر والأدب بمدينته ومسقط رأسه، ويعرفه العلماء والمثقفون بمسقط رأس رسول الإسلام مكة المكرمة. علماء السعودية ومسؤولوها يكرّمون الشيخ عبد الغني حساين وسلطات بلاده لا تعرفه الشيخ عبد الغني عاد بنا إلى إحدى رحلاته، ولعلها الأولى إلى بلاد الحرمين، التي زارها لأداء العمرة، وبمكتبة مكة المكرمة التقى بمديرها الأستاذ عبد الملك الطرابلسي، وهو ليبي الأصل ومن المقرّبين من العائلة الحاكمة بالمملكة السعودية، كان ذلك بداية التسعينيات من القرن الماضي، فانبهر مدير مكتبة مكة بقدرات الضيف الجزائري في ترجمة الكتب ونقلها من العربية إلى الفرنسية، زيادة على مهارته في التجليد والتغليف التقليدي للكتب وكيفية ترتيبها وتنظيمها، فوظّفه بعقد مؤقت وساعده في تمديد فترة إقامته إلى غاية موسم الحج. وهناك وطّد علاقته بالكثير من العلماء والمسؤولين، فكان موظف سام برتبة وزير يسكنه ببيته في مكة المكرمة، وهناك تعلّق قلبه بالحرم وبمكتبة الحرم ومدينة مكة، فترجم العشرات من الكتب التي تنتظر النشر. ولعل من أهم المؤلفات التي ترجمها، إضافة إلى ما سبق ذكره، ترجمة كتاب ”نثر القلم في تاريخ مكتبة الحرم” للأستاذ الدكتور محمد بن عبد اللّه بابجودة، و«تنزيه القرآن الكريم عن دعاوى المبطلين” للدكتور منقذ بن محمود السقار.وهو في الثمانين من عمره مازال الأستاذ عبد الغني حساين يداعب جهاز الحاسوب باحثا ومؤلفا، لا يغادر مسكنه بحي بيروانة بأعالي تلمسان إلا للضرورة. وعن مشاريعه المستقبلية، قال الشيخ الجليل إنه يفكر في الدخول والخوض في تاريخ السير، كتابة وترجمة، بداية بأمهات المؤمنين والصحابة الكرام. وحين سألته ”الخبر” عن سر الاختيار، قال إن أحد أحفاده المقيمين بفرنسا طلب منه ملخص بحث حول الصحابي الجليل أبو عبيدة ابن الجراح، فجاءته فكرة ترجمة سلسلة من الأعمال إلى اللغة الفرنسية، أملا في أن يجد من يتكفل بطبعها وتسويقها بفرنسا للمساهمة في نشر الثقافة الإسلامية سليمة غير مشوّهة. ورغم أنه غير مدمن على متابعة وسائل الإعلام والفضائيات، قال الحاج عبد الغني إنه يعيش بمرارة ما تعانيه شعوب بعض الدول العربية والإسلامية ليخص مصر بالذكر، قائلا ”ما حدث في مصر ظلم، والانقلاب على رئيس منتخب ديمقراطيا عودة إلى الوراء”.وحين صدحت مآذن تلمسان برفع آذان صلاة المغرب، ودّعنا الشيخ في بيته بحي بيروانة قريبا من المكان الذي كان يتواعد فيه كل صباح للقاء زميله في فصل الدراسة، لطفي بن علي دغين، الشهير بالعقيد لطفي، والذي كان يأتي من حي القلعة العليا فيتوجها معا إلى مقاعد الدراسة، لتفرق الأيام بين الصديقين، فانتقل لطفي إلى جوار ربه شهيدا، وبعد أكثر من خمسين سنة على استشهاده يبقى رفيقه الذي طلب منه عدم مغادرة المدرسة غريبا بين أبناء وطنه تؤنسه مؤلفاته وكتبه. ن. ب
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات