في سنن الدارمي من حديث عُبيد الله بن أبي جعفر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أجرؤكم على الفتيا، أجرؤكم على النار». قال العلامة المُناوي في فيض القدير: «أجرؤكم على الفتيا»، أي: أقدمكم على إجابة السائل عن حكم شرعي من غير تثبت وتدبر، «أجرؤكم على النار» أي: أقدمكم على دخولها؛ لأن المفتي مبين عن الله حكمه فإذا أفتى على جهل أو بغير ما علمه أو تهاون في تحريره أو استنباطه فقد تسبب في إدخال نفسه النار لجرأته على المجازفة في أحكام الجبار.وقد سادت الساحة فتاوى شيطانية تجرأ أصحابها، فمن قائل بجواز إمامة المرأة، ومن مفتر على الشرع بجواز بيع الخمر دعمًا للاقتصاد وتنشيطًا للسياحة، ومن مفت بأن الربا لا يجري في الأوراق النقدية، ومن حشاش يرى بأن الاختلاط مباح وسبيل إلى فك العقد عن البنين والبنات!! وهذه نماذج فقط لبعض الفتاوى والجرأة على التقول على رب العالمين.وما زال واقعنا يتمخض عن فتاوى تتسارع الأفواه في نقلها، وتتسابق الفضائيات في عرضها، أضلت أقوامًا، وتشبث بها من في قلبه مرض، ولا يملك العبد وهو يرى هذه الغرائب والتقلبات إلا أن يقول: اللهم لا تفتنا ولا تفتن بنا.إن مما ينبغي بيانه أن شأن الإفتاء عظيم، وموقعه جسيم؛ إذ هو توقيع عن رب العالمين، ويكفي استعظاما لشأنه أن المولى سبحانه قد قرن التقول عليه وعلى شرعه بلا علم بالفواحش والظلم والإشراك: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانًا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}، وأنكر مولانا وشنع على من يرسلون ألسنتهم تحليلا وتحريما بلا علم، وسمى ذلك افتراء وكذبًا: {قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالًا، قل آلله أَذن لكم أم على الله تفترون}.فالتقول على الشرع بالظن مرض خطير، وانحراف كبير، وهو مؤشر على رقة في التدين، وحب للرياء والادعاء، نهى عنه رب الأرض والسماء: {ولا تقف ما ليس لك به علم}، وها هو صلى الله عليه وسلم يحذر من سؤال أهل الجهالة: “إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبق عالمًا، اتخذ الناس رءوسًا جهالًا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا”.حين نقلب صفحات أخبار الصالحين نجد الديانة الحقة، والتورع الخالص، فالقوم استشعروا عظمة الله، وعظم مقام ربهم في قلوبهم، فتهيبوا الفتيا وهربوا منها، وما تصدروا لها؛ بل كان أحدهم يتمنى لو أن غيره كفاه، قال ابن ليلى: أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله، فما كان منهم مفت إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا، وهذا فقيه العراق أبو حنيفة يقول: من تكلم في شيء من العلم وهو يظن أن الله لا يسأله عنه: كيف أفتيت في دين الله، فقد سهلت عليه نفسه ودينه، وقال سفيان بن عيينة: أعلم الناس بالفتيا أسكتُهم عنها، وأجهلهم بها أنطقهم فيها.بل بلغ من غيرة سلفنا على دين الله أنهم كانوا يتحسرون ويبكون إذا رأوا المتجرئين والمتسلقين على مقام الفتيا، دخل رجل على الفقيه ربيعة بنِ أبي عبد الرحمن فرآه يبكي فسأله، فقال: استُفتي من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم، ثم قال: إن هؤلاء أولى بالسجن من السراق!! قال ابن الجوزي: هذا قول ربيعة والتابعون متوافرون، فكيف لو عاين زماننا هذا؟ بل كيف لو أدرك ابن الجوزي هذه الأزمان، وقد تجرأ على الإفتاء من هبَّ ودبَّ، دون علم ولا ورع ولا أدب!فالفتوى مردها للعلماء المعروفين بطول باعهم في العلم، تحصيلًا وتبليغًا، والمشهور لهم بدقة الفهم، ومعرفة حال المستفتين، ومآلات الفتوى، العلماء الذين يعظمون النص، فلا يلتفون على الأحكام الشرعية بتعليلات وهمية، ولا يوردون على النصوص القطعية احتمالات جدلية، قال ابن سيرين: إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم، مسائل الدين لا تؤخذ من المفكرين، ولا من المثقفين، فضلا عن غيرهم من الأدباء والصحفيين، مسائل الإفتاء هي من العلماء وإلى العلماء، وإذا أُخذت الفتوى من غير أهلها، شاع الباطل وأُلبس لباس الحق، ونسب إلى الدين ما ليس منه.* إمام وأستاذ بجامعة العلوم الإسلامية – الجزائر 1
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات