لم تحبل انتفاضاتنا العربيَّة الأخيرة بالديمقراطية المنشودة ولا بالتغيير الإيجابيِّ. لم تحبل، بالأخصِّ، بهذا الربيع المُنتظر طويلا لأنها، رُبَّما، لم تدرك أنَّ “سنونوة” قلب نظام الحكم لا تعني حلول “ربيع” الديمقراطية والحرية. لقد هللنا لقطع رأس الملك وكان وراء ذلك، بكل تأكيدٍ، اعتقادٌ ضمني بأنَّ السلطة يمكنُ اختزالها في شخص الحاكم. كان ذلك وهما. هذا ما يدعونا إلى مراجعة علاقة فكرنا السَّائد بالواقع وبمشاريعه الصَّاخبة التي أطرت نظام العمل عندنا طيلة عقودٍ من الزمن. كان يلزمنا نقدٌ للعقل الثوريِّ العربي يُعيدُ تأسيسَ العمل النقدي، نظريا وعمليا، على مُحدِّداتٍ جديدةٍ تم تغييبها لحدِّ الآن وراء الشعارات المعروفة. ربما لم يكن من المُمكن لفكرنا طيلة العقود الماضية، معرفيا وتاريخيا، أن يُفكرَ في السلطة والتغيير بمعزل عن شخص الحاكم، ولم يُتح له أن يفكرَ في السلطة بشكل مُختلفٍ يخرجها من دائرة التركيز على أيقونة الملك أو المُؤسَّسة الطافية كخشبةٍ عائمة على مُحيط الواقع السوسيو- سياسي والثقافيِّ المُعقد والذي لم نلتفت إليه بصورة كافية.هاجس التغيير الانقلابيّفمن المعروف أنَّ الفكرَ العربيَّ، بمُختلف تياراته، ظل مسكونا بهاجس التغيير الانقلابيّ - مدفوعا بإيديولوجية “الثورة” في طبعتها العربية التي لم تتخلص من رواسب القهر والاستبداد - ولم يلتفت إلى الأسُس التي ظلت تغذي كلَّ أشكال التسلط والقمع في تاريخنا. إذ كنا، في أحسن الأحوال، نحمّلُ النخب الحاكمة أو الطبقات المُسيطرة أو الغرب الإمبريالي مسؤولية فشلنا في دخول العصر والارتقاء بالإنسان العربيّ. قد يكونُ ذلك من الأسباب المُؤكدة لكبوتنا الحضارية؛ ولكننا لم نلتفت بصورة جدية، أيضا، إلى البنيات الفكريّة الماضوية المُضمرة وإلى سطوة تاريخنا الباطنيّ وهُو يُعيدُ إنتاجَ نفسه إلى ما لا نهاية عبر نظامنا الاجتماعيِّ البطريركيّ وعبر زمننا الثقافيّ الرَّاكد. لم نلتفت بما فيه الكفاية إلى ضرورة اجتراح آفاق النقد الثقافيِّ لذاتنا التاريخيّة المُنهكة، وإنما ظللنا نعتصمُ بالحديث عن الهوية المُهدّدة وعن مخاطر الطريق إلى الحداثة. كما سيطرَ علينا هاجسُ مُحاولة مسح الغبار عن مرآة الذات كي نشبعَ فضول نرجس الذي يسكننا في التملي الأبديِّ في وجهه. يلتقي في هذا الفكرُ النهضوي / القوميّ مع الفكر الأصوليِّ المُهيمن، اليوم، بأشكاله المُختلفة. ولكننا نعلمُ، حاليا، انطلاقا من تجاربنا الأخيرة التي هللنا فيها لـ “قطع رأس الملك” - دون أن نحققَ الشيء الكثير على درب الدمقرطة والقضاء على بنيات الاستبداد - أنَّ الديمقراطية لا تُختزل في التغيير السياسيِّ الفوقي، وهي ليست لعبة سياسية أو أداءً مُؤسَّساتيا يرتبط بأجهزة الدولة المدنيَّة الحديثة فحسب. الديمقراطية، بمعنى آخر، ليست تنزيلا سياسيا أو لعبة انتخاباتٍ شكلية وصناديق مُفرغة من مضمونها الثقافي والفلسفيّ الكبير القائم على الاعتقاد بالعيش المُشترك ومرجعية المُجتمع بمعزل عن اللاهوت. هذا يعني أنها، بصورةٍ مبدئيَّةٍ، نظامٌ فكريّ وبناءٌ اجتماعي يقومُ على قيم رسَّختها - شيئا فشيئا - تجاربُ تاريخية ومخاضٌ عسيرٌ انبثق معهُ الإنسانُ بوصفه مرجعية عليا لنظام عمل المُجتمع بعيدًا عن سطوة المُؤسَّسات التقليدية. الديمقراطية جسَّدت هزيمة اللاهوت على يد الناسوت. هذا يعني أنَّها مثلت قطيعة معرفية مع نظام المعنى الواحد ومع المُقدَّس الدينيّ، كما مثلت قطيعة سياسيَّة مع “مدينة الله” وعلاقاتها القائمة على الوصاية والإخضاع. إنها زمن فولتير لا القدِّيس أوغسطين.الديمقراطيَّة ليست مذهبا فكريا أو نظريَّة ناجزة أيضا بقدر ما هي تاريخ ينضحُ بالإنسانيّ، ومسارٌ في الانعتاق من محبس المرجعيَّات التي اغتصبت الشرعيَّة في الفضاء السوسيو- سياسي وأسَّستها على المُطلق أو المُقدَّس المُفارق. الديمقراطيَّة، في كلمة، هي التاريخُ مُتأنسِنا. من هُنا نستطيعُ أن ندرك، جيّدًا، ارتباطها التاريخيَّ الوثيق بمسار الحداثة الظافرة منذ القرن السَّادس عشر في الغرب الحديث. فقد أسهمت النزعة الإنسانيَّة والعقلانية الفلسفيَّة وأفكارُ عصر التنوير النقديَّة والحقوقيَّة والسياسية في ميلاد أفكار المُساواة والحقوق الطبيعيَّة والإرادة العامَّة؛ ومكنت من الإجهاز على العالم القديم وأسُسِه الفكريَّة / الإيديولوجيَّة المُرتبطة باللاَّهوت السياسيِّ القائم على الحق الإلهيِّ المُطلق. لقد استردَّ الإنسانُ سيادتهُ على المجال السياسيِّ انطلاقا من احتلاله مركز دائرة القيم وتنصيب نفسه مرجعيَّة عليا لكل مبادرة تاريخيَّة. هذا يعني أنَّ الديمقراطية لم تنشأ بوصفها لعبة انتخابيَّة شكليَّة وإنما باعتبارها زمنا ثقافيا جديدًا مثل انتصارَ الإنسان، شيئا فشيئا، على آلة الاستلاب الدِّيني العملاقة، وجسَّد خروجَهُ من زمن الارتهان في المُؤسَّسة البطريركيَّة القمعيَّة.شجرة الديمقراطيَّة تغذت تاريخيا على نسغ الانقلابات السوسيو- معرفية الكبرىما أردنا أن نقولَ هُو أنَّ الديمقراطية قامت على أسس ثقافية وعقلية لم تتوفر في تاريخنا. إنها أسسٌ دشنت عهدًا جديدًا أنهى زمن الوصاية الدينيَّة وحرَّر التاريخ من مُراقبة الأستاذية العقائدية؛ كما جعلَ المُجتمعَ مرجعَ ذاته في حركيَّته التاريخية، ولم يكن مخاضُ هذا الأمر سهلا كما هُو معروفٌ. لقد تزامنَ تفكك النظام المعرفيِّ القديم مع تفكك بنية المُجتمع الأبويِّ التقليدي والتراجع التدريجيِّ لعلاقات القوة القائمة على الإخضاع، وهذا لصالح بروز الفردانيَّة وازدهار المعرفة النقدية ونزعات الشك. من هُنا يُمكننا القولُ إنَّ شجرة الديمقراطيَّة تغذت تاريخيا على نسغ الانقلابات السوسيو- معرفية الكبرى التي مهَّدت لميلاد الحداثة في التاريخ الغربيِّ. مُشكلة ثقافتنا الموروثةتكمنُ في تقليديتهامن المعروف أنَّ ثقافتنا ـ في شكلها الموروث والسَّائد/ المُكرَّس ـ لم تكن ثقافة مُؤهَّلة لأن تحبلَ بالديمقراطية أو بنظام للمعنى يسمحُ بالنظر إلى الحقيقة باعتبارها بحثا لا ينتهي ومُغامرة في اكتناه ليل العالم. لم تكن هذه الثقافة الموروثة، في شكلها الدِّيني الطاغي المُهيمِن، لتُزحزحَ المُقدَّس المُتعالي عن المركز كي يحُلَّ محلهُ الإنسانُ بوصفه قيمة عليا ومرجعًا تتأسَّسُ عليه مشروعيَّة الوجود السياسي والاجتماعي. هذه مُشكلة الثقافة العربية الأولى. وعبثا نُحاولُ - خارجَ مدار نقد الفكر الدّيني والعقل الدِّينيّ - أن نؤصِّلَ للديمقراطية والعلمنة والحداثة، أو لقيم المُواطنة والمُساواة في حياتنا. عبثا نُحاولُ أن نُجيِّشَ آلة التبرير الكبرى في ثقافتنا المُعاصرة كي نكتشفَ، بضربة عصا سحريَّة، أنَّ قيمَ النهضة والحداثة والديمقراطيَّة وحقوق الإنسان كانت سجينة داخلَ قمقم الذات الخالدة تنتظرُ من يُحرِّرها ويُخرجُ ماردَها. هذا وهمٌ ومُغالطاتٌ وسقوط في اللاتاريخيَّة. لكل إنجاز ثقافيّ زمنه وحدودُه. ومُشكلة ثقافتنا الموروثة تكمنُ في تقليديتها وفي كونها ظلت نظامًا معرفيا يُكرِّسُ الماضوية والمرجعية وعقليَّة الطائفة الناجية والانغلاق المذهبيّ. وكلُّ هذه المُحدِّدات شكلت نظاما معرفيا كبحَ الذات العربية تاريخيا وأغلق أمامها الأبوابَ التي تُمكنُ من دخول كوميديا التاريخ الأرضيِّ والمُشاركة في صُنع أقداره. ورُبَّما أتيحَ لنا، أيضا، أن نلاحظ مع الكثير من الباحثين أنَّ دوامَ رسوخ ثقافة التقليد والإخضاع كان مُنسجمًا تماما مع البنية البطريركية للمُجتمع العربيِّ والتي لم تكن أرضية مُلائمة لانبثاق الفردانية أو ترسّخ قيم التفكير خارج المرجعيَّة المُتعالية والإبداع خارج النماذج. إنَّ هُناك أطرًا اجتماعية للمعرفة كما كان يُعلّم جورج غورفيتش. من هنا نطرح أسئلة نراها ضرورية: هل كانت انتفاضاتنا أو “ثوراتنا” الأخيرة تتويجًا لمسار نضاليّ وتقدم معرفيّ ورغبة في النقد الذاتيّ لمُجتمع لم يعُد مُؤسَّسة تكفلُ لأبنائها جميعًا الحياة الكريمة الحُرَّة؟ هل كانت ثوراتنا، فعلا، نُشدانا للديمقراطية بوصفها نظامَ عمل مُجتمع يقومُ على مركزية الإنسان والمُساواة الحقوقية بين الأفراد بعيدًا عن أشكال العصبيَّات والانتماءات الطائفيَّة والمذهبيَّة السَّائدة؟ هل كانت ثوراتُنا مُحاولة في تأسيس “عقد اجتماعيّ” جديد يتجاوز منطق العلاقات القائمة عندنا، إلى اليوم، بين “الرَّاعي والرَّعية”؟ هل كانت انتفاضاتنا ثورات حقا بالمعنى التجاوزيِّ / النقديّ أم كانت حنقا مُعبِّرًا عن رفض تحديثٍ فاشل وقع تحت سحر نموذج الدولة الأمنية ولم يُتح لهُ تحقيق التنمية البشريَّة؟ وما تفسيرُنا، بالتالي، لنوستالجيا العودة إلى البدايات ورفض منطق الأنسنة والتقدم من خلال الحلم بنموذج الخلافة القروسطي والرغبة في “تطبيق الشريعة”؟ ما تفسيرُ ذلك الحنينَ الذي لا ينتهي إلى “تطبيق الشريعة” - عند من ينتفضُ ضدَّ نظام الحكم العربيّ - سوى بوصفه ردَّ فعل المُجتمع التقليديّ / الذكوريّ على تحديث مُتوحش لم ينجح في بناء مُجتمع المُساواة الحديث على أنقاض مُجتمع الفحولة والوصاية والإخضاع؟ ثمَّ كيف يُمكننا أن نفهمَ “ثورة” تُطالبُ بالرّجوع إلى ما قبل الحداثة الحقوقيّة والسياسية؟ كيف يُمكننا أن نكونَ ثوَّارًا ونحنُ لم ننجز، بعدُ، ثورتنا الثقافيَّة والفكرية / النقدية لمورُوثنا، من خلال نقد الذات ومُراجعة نظام عمل ثقافتنا التي لم تعُد على موعدٍ مع التاريخ؟ هل تمَّ نقد الشريعة الإسلاميَّة في شكلها الموروث باعتبارها منظومة قانونية جسَّدت عقلا فقهيا طائفيا مُتمركزا حول حقوق الله لا البشر؟ هل يُمكنُ أن يكونَ ديمقراطيّا من لا تكونُ مرجعية حقوق البشر ـ بمعزل عن انتماءاتهم الدينيّة ـ في قلب نضاله ومُمارساته السياسيَّة؟إعادة التفكير بصورةٍ جذرية في قضاياالدولة المدنيَّة رُبَّما يطرحُ هذا الأمر، اليوم، مُشكلات عدة على العقل الإسلامي والفكر الدِّيني عُمومًا من أجل إعادة التفكير بصورةٍ جذرية في قضايا الدولة المدنيَّة والمُجتمع المفتوح وحقوق الإنسان في ظل مُكتسبات العقل الحديث. على العقل الدّينيّ أن يتخلَّص من نزوعهِ المُضمَر إلى الهيمنة على الفضاء الاجتماعي، حيثُ يجبُ أن تسودَ القيمُ المدنيَّة المُشتركة. عليه أن يُخلّصَ “شهوة المُطلق” المشروعة بكل تأكيد ـ بوصفها توقا إلى العلوِّ والروحانية - من رغبة السَّطو على المجال السياسي حيثُ الشراكة والتعدد والاختلاف والفضاءُ العام الذي يتجاوز الحساسيات الطائفية والمذهبية. فلا مُطلقَ في الحياة العامة والسياسية، وإنما الحوار وإعادة النظر الدائمة ومرجعية الإرادة العامة في الاستجابة لتحديات الارتقاء بالإنسان وحقوقه.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات