رغم الحضور المكثف لقضية الهوية في مختلف الخطابات إلا أنها في الغالب الأعم لم تطرح بالطريقة المناسبة والفعالة، وإلا كيف نفسر الجدل المستمر بين مختلف الأطراف حول هذا الموضوع.وإذا حاولنا تتبع المسألة في الماضي القريب، نلاحظ أن النخبة الحاكمة في بلادنا، منذ استرجاع السيادة الوطنية، لم تفتح نقاشا جادا حول موضوع الهوية، حيث تسهم فيه كل الأطياف العرقية والمذهبية والإيديولوجية، أي كل الفعاليات الوطنية. ففي كل عشرية من الزمن، يتم تأجيل الطرح الموضوعي لإشكالية الهوية في الجزائر بمبررات مختلفة كبناء مؤسسات الدولة في الستينيات، والتنمية الزراعية والصناعية في السبعينيات، ثم الرفاه الاجتماعي في الثمانينيات، ومعالجة الأزمة الأمنية في التسعينيات، وهكذا..موازاة مع فعل التأجيل هذا، لجأت النخبة الحاكمة إلى تبني تصور للهوية على أنها إحلال وحدة محل التشتت والفرقة، فجعلت من الهوية ملجأ آمنا من شر الغزو الأجنبي والتمزق الداخلي، وشعارا ترفعه في وجه كل صوت يطالب بفتح النقاش حول هذا الموضوع أو غيره من الموضوعات المحرجة، وهكذا كان من السهل التعامل مع شتى أشكال المعارضة، إذ يكفي وصفها بالخيانة أو التآمر مع قوى أجنبية معادية للوطن ولرموزه وهويته، حتى يتم تجريمها وشرعنة محاكمتها.احتكار الحديثعن الهوية الملجأفالسلطة إذن، احتكرت الحديث عن الهوية - الملجأ، موظفة مختلف المؤسسات التابعة لها لتمرير هذا التصور وضخه عبر وسائل الإعلام للاستهلاك الجماهيري، حيث يتم الحديث عن الهوية كمنتوج جاهز، مكتمل بناؤه، معروفة عناصره بدقة، وتكون مهمة الأفراد ـ وليس المواطنين - استقبال هذا المنتوج والدفاع عنه دون أدنى تساؤل نقدي حول ماهيته، فعناصر الهوية الجزائرية هي الأمازيغية، العربية والإسلام بكل بساطة ووضوح.غير أن هذا التصور وإن كان فعالا - بالنسبة للسلطة طبعا- في فترة ما، فهو لم يعد كذلك الآن، فقد ظهر معطيان قلصا من فعالية هذا التصور المغلق للهوية وهما: أولا: تفاقم المشاكل الاجتماعية للفرد: البطالة، السكن، التعليم.. الخ، وعجز النظام عن إيجاد حلول فعالة لهذه المشاكل. ثانيا: تطور الوعي الفردي والجماعي مع ما تتيحه وسائل الاتصال والتواصل الحديثة من اطلاع على أوضاع المجتمعات الأخرى. هذان العاملان أديا إلى وضع السلطة بكل استراتيجياتها موضع اتهام ومحل فقدان الثقة بينها وبين الفاعلين الاجتماعيين، ومن ثم اتساع الهوية وتقلص قوة تأثيرها على الأفراد، وترتب على ذلك انكسار الهوية - النموذج الذي عاشت عليه هذه السلطة ردحا من الزمن.فتح النقاش الجاد الواعي حول إشكالية الهويةفإذا كانت مقومات النموذج الذي فرضته السلطة هي الأمازيغية والعربية والإسلام، فإن الانكسار أصاب تصورنا لهذه العناصر ذاتها، وتم تشويه صورتها؛ فالإسلام خلال التسعينيات من القرن الماضي تم إقحامه عنوة في الصراع السياسي، وتم توظيفه كرأسمال رمزي يتم التنافس عليه لاقتناص السلطة من طرف البعض، أو للبقاء فيها من قبل البعض الآخر، أما اللغة العربية فيتم النظر إليها من قبل البعض على أنها رجعية ورمز من رموز التخلف الفكري، كما لم يتم فك الارتباط بين العربية كلغة وفكر، والعرب أو العروبة كإثنية. أما المسألة الأمازيغية، فهي عودة للجاهلية في نظر البعض، كما أن الدفاع عنها لدى البعض الآخر يعني ضرورة معاداة العربية والإسلام..، وإذا تحولنا نحو التاريخ الوطني كمقوم آخر من مقومات الهوية نجد إشكاليات جمة بصدده، فالجدل قائم حول شخصيات مهمة في تاريخنا القديم والحديث، كما أن الصورة لم تتضح بعد حول الوجود العثماني أو الاستعمار التركي في الجزائر! وحتى التاريخ القريب، أقصد الثورة التحريرية، ليس واضحا كما يحاول البعض تصويره، فقد أصبحنا نقرأ عن المجاهدين المزيفين، وعن التخوين أو التشكيك في نضال ووطنية بعض رموز هذه الثورة.إذن، أصبحنا في حالة المنزلة بين نموذجين للهوية؛ النموذج الجاهز الذي تهالك ولم يعد صالحا للاستمرار، والنموذج البديل الذي لم يتشكل بعد أو على الأقل لم تتضح معالمه بعد. ومن الأسباب التي تعمل على تأخير هذا التصور الجديد للهوية والذي سندعوه بالهوية - المشروع، التسييس الذي يطغى على كل خطاب عن الهوية، لذلك نعتقد أن أول خطوة في مسار الشروع في بناء تصور فعال للهوية الوطنية هو زحزحة النقاش حول الهوية من الحقل السياسي إلى الحقل الثقافي والعلمي، وهذا ضمانا لعدم استغلال القضية لقضاء مآرب سياسية، فئوية، ظرفية، فأغلب قضايانا الثقافية طرحت في الحقل السياسي ومن قبل رجال السياسة ومن ثم حادت عن أهدافها ولم تأت أكلها.ثانيا: إن فتح النقاش الجاد الوعي حول إشكالية الهوية يتطلب التحول من التصور المكتمل الثابت لعناصر الهوية إلى التصور الديناميكي التاريخي النقدي لهذه العناصر.الهوية ليست انكماشا وانكفاء على الذات، بل هي انفتاح وتواصل وفعالية مثلما يقول فتحي التريكي: “إن الهوية دون انفتاح على المختلف أخلاقيا ومن غير فعل مشارك في سيرورة التاريخ وبلا نهضة للأفكار ولأنماط الحياة وللغيرية بصفة عامة، تصبح مرضية، لأنها قد انكمشت على ذاتها ورفضت العالم وما يحيط بها”.ماذا يعني أن نكون أمازيغ؟ وماذا يعني أن ندين بالإسلام؟الهوية مشروع يبنى في التاريخ، وهي تأسيس للمستقبل، والطرح الفعال لإشكالية الهوية في الجزائر لا يكمن في الدفاع الحماسي على عنصر من العناصر ضد آخر: كالدفاع عن الأمازيغية ضد العربية، أو الإسلام ضد الأمازيغية..، لأن هذا مسلك إقصائي يدعم العداء ويكرس الفرقة، ويؤخر الفعل والنهوض.السؤال الجوهري الذي ينبغي طرحه والسير على هداه كالتالي: ماذا يعني أن نكون أمازيغ؟ وماذا يعني أن ندين بالإسلام؟ أي مسؤولية تفرضها علينا هذه الانتماءات؟ ماذا قدمنا في سبيل إظهار هذه الرموز على أكمل وجه ممكن، ماذا عن حمايتها وترقيتها؟.. كثيرة هي الأسئلة التي يشكل الجواب الدقيق عنها لبنة في بناء الهوية - المشروع الذي يغتني باستمرار من تجارب المنتمين إليها دون أن يكتمل.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات