كثيرًا ما يعيش الإنسان الأوهام والأحلام على أنهما الواقع والحقائق! فيتجاوز واقعه الحقيقي ويجهل حقيقة واقعه! وهنا إما أن يتشاءم وييأس من انصلاح الحال وتحسنها، وإما أن يتطبع معها ويرضى بانحرافها، ويتسلى عنها بتلك الأحلام الجميلة والأوهام العليلة! وكلا الحالين سلبية مرفوضة وتسليم بالواقع، بل مساهمة في تثبيت هذا الواقع على علاته الخطيرة، وأمراضه الكثيرة، وأضراره الكبيرة!لا شك أن الأسباب التي تصل بالإنسان إلى هذه الدرجة متعددة، فكل ظاهرة إنسانية معقدة وراءها أسباب متعددة، وقد يكون من أهم الأسباب التي تدفع إلى هاته الحال التي نتكلم عليها سيطرة فكرة: كل شيء أو لا شيء. أي إصلاح تام سريع، وإلا انخراط في الفساد ورضى به! وهذا تصور سطحي طفولي اختزالي، ذلك أن الواقع لم يبلغ السوء الذي وصل إليه دفعة واحدة، بل تراكمت الأخطاء والانحرافات والسلبيات. وكذلك إصلاح الواقع لا يعقل أن يأتي دفعة واحدة، بل تتدرج الحال وتتكامل الأعمال وتتراكم الإنجازات.وهنا لا بد أن ننتبه لأهمية الأعمال الصغيرة التي لا يؤبه لها عادة، والتي لا يحسب لها كثير من الناس حساب، ويظن أغلبهم أن لا أثر لها في الميزان. نعم هي في الغالب لا تتطلب جهدا عظيما، ولا تثير جلبة قوية، ولكن تراكمها وتكاملها يمثل عاملًا حاسما في صراع الإصلاح مع الإفساد، ونِزال المصلحين ضد المفسدين.وفي ضوء هذا نفهم الأحاديث النبوية الشريفة التي رتبت أجورًا كبيرة على أعمال يسيرة، وثوابًا جليلا على أعمال قليلة ضئيلة، كقوله صلى الله عليه وسلم: “والذي نفسى بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا. أفلا أدلكم على أمر إذا فعلتموه تحاببتم: أفشوا السلام بينكم» رواه البخاري وغيره، وقوله صلى الله عليه وسلم: “يا أيها الناس: أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام؛ تدخلوا الجنة بسلام» رواه البخاري وغيره، وقوله صلى الله عليه وسلم: “نزع رجل - لم يعمل خيرا قط - غصن شوك عن الطريق؛ إما كان في شجرة فقطعه وألقاه، وإما كان موضوعا فأماطه فشكر الله له بها، فأدخله الجنة» رواه أبوداود.ونفهم كذلك أحاديثه المنيفة التي تحثنا على أفعال الخير مهما صغر، وترغبنا في أعمال البر مهما قلت، كقوله صلى الله عليه وسلم: “اتقوا النار ولو بشق تمرة» رواه البخاري وغيره، وقوله صلى الله عليه وسلم: “لا تحقرن من المعروِف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق» رواه مسلم، وقوله صلى الله عليه وسلم: “لا تحقرن من المعروف شيئا، ولو أن تعطي صلة الحبل، ولو أن تعطي شسع النعل، ولو أن تفرغ من دلوِك في إناء المستسقى، ولو أن تنحي الشيء من طريق الناس يؤذيهم، ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منطلق، ولو أن تلقى أخاك فتسلِم عليه، ولو أن تؤنس الوحشان في الأرض، وإن سبك رجل بشيء يعلمه فيك، وأنت تعلم فيِه نحوه، فلا تسبه؛ فيكون أجره لك، ووزره عليه. وما سر أذنك أن تسمعه فاعمل به، وما ساء أذنك أن تسمعه فاجتنبه» رواه أحمد. إلى غيرها من الأحاديث الكريمة العظيمة. والمقصود منها واضح: تربية المؤمن على فعل الخير دائما، وغرس معاني الإيجابية في نفسه، وتعويده على عدم الزهد فيما يمكنه القيام به من الخير مهما صغر أو حقر، وتعليمه أن النتائج الكبيرة هي محصلة أعمال صغيرة. وهذه الحقيقة المهمة تنبه لها الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله فقال معبرا عنها، مبينا أبعادها وآمادها بقوله: “إن التاريخ لا يبدأ من مرحلة الحقوق، بل من مرحلة الواجبات المتواضعة في أبسط معنى للكلمة، الواجبات الخاصة بكل يوم، بكل ساعة، بكل دقيقة، لا في معناها المعقد، كما يعقده عن قصد أولئك الذين يعطلون جهود البناء اليومي بكلمات جوفاء، وشعارات كاذبة، يعطلون بها التاريخ، بدعوى أنهم ينتظرون الساعات الخطيرة والمعجزات الكبيرة”.حقا إن الذي يعجز عن العمل الصغير القليل الضئيل لهو حتما أعجز عن الأعمال الكبيرة الجليلة. والذي يعتاد تضييع الفرص الصغيرة ستضيع عليه الفرص الكبيرة بلا ريب. والذي اعتاد فعل الخير واقتناص الفرص سيكون مستعدا للمساهمة في الخير دائما. بل قد يبدأ الإنسان مشواره بعمل قليل ثم يتدرج لِما هو أهم وأعظم، وهكذا أول الغيث قطر ثم ينهمر.*إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات