+ -

هذا المعنى مأخوذ من قوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} النور:2. قال أبو بكر بن العربي في كتابه “أحكام القرآن”: “وفقه ذلك؛ إن الحد المحدود ومن شهده وحضره يتعظ به ويزدجر لأجله ويشيع حديثه فيعتبر به من بعده”.ويرجع هذا المقصد إلى إصلاح مجموع الأمة لأن التحقيق من إقامة العقاب على الجناة على قواعد معلومة ومشاهدته عيانا يؤيس أهل الدعارة من الإقدام على إرضاء شياطين نفوسهم في ارتكاب الجنايات، فكل مظهر أَثر انزجارا فهو عقوبة لكنه لا يجوز أن يكون زجر العموم بغير العدل، فلذلك كان من حكمة الشريعة أن جعلت عقوبة الجاني لزجر غيره فلم تخرج عن العدل عن ذلك فإذا كان من شأن الشريعة إقامة الحدود والقصاص والعقوبات حصول انزجار الناس عن الاقتداء بالجناة، وإن عفو المجني عليه في بعض الأحوال لا تفوت معه فائدة الانزجار لندرة وقوعه فلا يكون عليه تعويل عند خطور خاطر الجناية بنفس مُضْمِرِ الجناية، ولهذا السبب ترى الشريعة لا تعتبر العفو في الجنايات التي لا يكون فيها حق لأحد معين مثل السرقة وشرب الخمر والزنا، فإن فيها انتهاكا لكيان التشريع وكذلك الحرابة، أما قتل الغيلة فلم يقبل فيه عفو الأولياء لشناعة جنايته، وإنما قبلت توبة المحارب قبل القدرة عليه حرصا على الأمن وحثا لأمثاله على الأسوة الصالحة.المعنى الجامع لهذا المقصد هو في قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلكُمْ تَتقُونَ} البقرة:179. وقوله تعالى: {فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} من جوامع الكلم فاق ما كان سائرا مسرى المثل عند العرب وهو قولهم “القتل أنفى للقتل”، وقد بينه السكاكي في “مفتاح العلوم” وذَيله من جاء بعده من علماء المعاني، وزاد عليهم ابن عاشور في “تفسيره”: بأن لفظ القصاص قد دل على إبطال التكايل بالدماء وعلى إبطال قتل واحد من قبيلة القاتل إذا لم يظفروا بالقاتل وهذا لا تفيده كلمتهم الجامعة. والقول في هذه الآية جاء بعد بيان الأحكام الكبرى في القصاص ليطمئن به نفوس الفريقين أولياء الدم والقاتلين في قبول أحكام القصاص؛ فبين أن في القصاص حياة، والتنكير في (حياة) قال ابن عاشور: هو للتعظيم بقرينة المقام، أي في القصاص حياة لكم أي لنفوسكم؛ فإن فيه ارتداع الناس عن قتل النفوس، فلو أهمل حكم القصاص لما ارتدع الناس؛ لأن أشد ما تتوقاه نفوس البشر من الحوادث وتحرص شديد الحرص على تجنب أسبابه هو الموت، فلو علم القاتل أنه يسلم من الموت إذا قتل غيره، كأن يحكم عليه بالسجن لمدة طويلة ثم يأتيه العفو في منتصفها، لأقدم على القتل مستخفا بالعقوبات.ولو ترك الأمر للأخذ بالثأر كما كان عليه في الجاهلية لأفرطوا في القتل وتسلسل الأمر كما تقدم، فكان في مشروعية القصاص حياة عظيمة من الجانبين، وليس الترغيب في أخذ مال الصلح والعفو بناقض لحكمة القصاص. قال الثعالبي في “تفسيره”: المعنى أن القصاص إذا أقيم وتحقق الحكم به ازدجر من يريد قتل أحد مخافة أن يقتص منه فحييا بذلك معا وأيضا كانت العرب إذا قتل الرجل الآخر حمي قبيلاهما وتقاتلوا وكان ذلك داعيا إلى موت العدد الكثير، فلما شرع الله سبحانه القصاص قنع الكل به ووقف عنده وتركوا الاقتتال فلهم في ذلك حياة.وفي قوله تعالى {يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} لأن حكمة القصاص لا يدركها إلا أهل النظر الصحيح؛ إذ هو في بادئ الرأي كأنه عقوبة بمثل الجناية؛ لأن في القصاص رزية ثانية لكنه عند التأمل هو حياة لا رزية لما سبق ذكره.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات