إن الطبيعة الغالبة على النفس البشرية هي الحقد على من يعتدي عليها عمدًا ولا يقدّم لها عذرًا، والغضب ممن يعتدي عليها خطأ ولا يأسف لخطئه، فمثل هذه الأمور تدفعها إلى رد الفعل الذي ينطوي على معنى الانتقام، وهذا الأمر يكون عاريًا من العدل غالبًا لأنه صادر عن حقد وغضب ومعهما تختل الروية، وينحجب نور العدل ومن ثم فإن المجني عليه وأنصاره إن وجدوا طريقا للانتقام من الجاني لن يتأخروا عنها، وإن لم يجدوا لذلك سبيلًا تربصوا بصاحبهم الدوائر دون أن يسكت عنهم الغضب حتى إذا وجدوا مكنة بادروا إلى الفتك به، وهو المعنى الّذي أشار إليه قوله تعالى: {فلا يسرف في القتل}.وبهذا فلا تكاد تنتهي الثارات والجنايات ولا يستقر حال نظام الأمة فكان من مقاصد الشريعة أن تتولى هي الترضية وتجعل حدا لإبطال الثارات القديمة، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع: “وإن دماء الجاهلية موضوعة”.وقد كان مقصد إرضاء المجني عليه مع العدل ناظرا إلى ما في نفوس الناس من حبّ الانتقام فلذا أبقت الشريعة حقّ تسلم أولياء القتيل قاتل صاحبهم بعد الحكم عليه من القاضي بالقتل فيقودانه بحبل في يده إلى موضع القصاص تحت نظر القضاء، وهو ما يسمّى “بالقود” ترضية لهم بصورة منزّهة كما كانوا يفعلونه بالحكم عليه بأنفسهم.وهذا المعنى الذي هو إرضاء المجني عليه أعظم في نظر الشريعة من معنى تربية الجاني، ولذلك رجح عليه حين لم يمكن الجمع بينهما وهي صورة القصاص، فإن معنى إصلاح الجاني فائت فيها ترجيحا لإرضاء المجني عليه.وجريا على هذا المعنى قال أشهب من أئمة المالكية في مسألة رضا أولياء الدم بالصلح بالمال عن القصاص إذا كان مال الجاني يفي بذلك: “إن القاتل يجبر على دفع المال، لأن حفظ نفسه مقدم على حفظ ماله إذا رضي أولياء الدم بالصلح”.وإن استيفاء حق المجني عليه من الجاني الذي حرصت عليه الشريعة إرضاء له جعلته مؤسسا على المساواة والعدل فقال تعالى: {كتب عليكم القصاص في القتلى}، قال ابن العربي تعليقا على هذه الآية: قال علماؤنا: وأراد به المساواة في الفعل والمحل إلا أنه اعتمد في القرآن بيان المحل فقال: الحر بالحر والعبد بالعبد، لأنه كان محل اعتداء القوم ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك المساواة في الفعل فثبت أنه صلى الله عليه وسلم أتي إليه يهودي رض رأس جارية على أوضاح لها فاعترف فأمر به فرض رأسه بين حجرين.والذي استفيد من هذه الآية أيضا أن خصوص الصفات لا يعتبر في القتلى كالعقل والجمال والصغر والكبر وكونه شريفا أو ذا مال ونحو ذلك، وإنما تعتبر الأسامي والمظان الكلية فكل امرأة مكافئة لكل امرأة، ولذلك كانت ديات النساء واحدة وإن تفاوتت الأوصاف.وحرصا من الشريعة على إقامة مقصدها إرضاء المجني عليه حذّرت من كل الأمور التي تحول دون إقامته ونبّهت المكلّفين وخصوصا القضاة وأولياء الأمور أن إقامة الحدود لا ترتبط بجاه ولا شرف ولا ضعف ولا غيرها من الأوصاف الّتي لها ارتباط بالحياة الدنيوية ولها موقع في اعتبارات الناس المادية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق منهم الشريف تركوه وإذا سرق منهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيْمَ الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها”.وقال صلى الله عليه وسلم: “من حالت شفاعته دون حد من الحدود فقد ضاد الله”، وعلق ولي الله الدهلوي على هذا الحديث، فقال: “علم النبي صلى الله عليه وسلم أن حفظ جاه الشرفاء والمسامحة معهم والذب عنهم والشفاعة في أمرهم أمر توارثته الأمم وتنقاد له طوائف الناس من الأولين والآخرين، فأكد في ذلك وسجل أنّ الشفاعة والمسامحة بالشرفاء مناقضة لشرع الله والحدود.وجريًا على هذا المعنى قال صلى الله عليه وسلم: “أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود”، وبرغم من تشديد الشريعة على إرضاء المجني عليه واستيفاء حقّه بالعدل والمساواة، فإنها أرشدته إلى الصلح وحرضته عليه ونبهته إلى العفو ورغبته فيه كل ذلك حرصا منها على الحفاظ على سلامة أبنائها دون تشجيعهم على ما يخل بالنظام ويعرض الأمن للاختلال.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات