+ -

يقول الحقّ سبحانه: {يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}، هذا من فضل الله تعالى على النّاس، وتكريمِ المؤمنين والعلماء منهم، وشيخُنا الإمام الجِهبذ يوسف القرضاويّ رحمه الله نال هذه الرِّفعة الإلهية من الجانبين، فهو من المؤمنين بلا ريب، وهو من الّذين أوتوا العلم بلا شكّ، فمهما اختلفت مواقف النّاس حوله وحول مواقفه، فلن تجد من ينفي عنه الانتساب للمؤمنين وللعلماء، إلّا جاحد معاند ينادي على نفسه بالسّخف والحمق.ويكفي الإمام القرضاويّ رِفعةً أن أخذ بحظٍّ من ميراث النّبوة، ومعلوم أنّه لا رتبة فوق رتبة النّبوة، ولا شرف فوق شرف وراثة تلك الرّتبة المنيفة، وفي الحديث الشّهير: «وإنّ العلماء ورثة الأنبياء، وإنّ الأنبياء لم يورّثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنّما ورّثوا العلم، فمن أخذه أخذَ بحظٍّ وافر»، وشيخنا الإمام أخذ بحظّ وافر من هذا الحظّ الوافر، إذ اجتمع فيه ما تفرّق في غيره، وضرب في كلّ علم شرعيّ بسهم، وأيّ سهم! تدريس وتعليم وتأليف وتجديد! فانتهت إليه إمامة العلم الشّرعيّ في العصر الحاضر، وسلّم له العلماء المعتبرون بالإمامة والتّقدّم، وأمّا الّذين انتقدوه فهم إمّا علماء بحقّ يختلف أمثالُهم مع مثله، ولا يزال العلماء يخالف بعضهم بعضًا ويردّ بعضهم على بعض، وقد يكون الحقّ معهم كما قد يكون الحقّ مع الشّيخ الإمام، ولا غضاضة في ذلك عليه ولا عليهم.وإمّا متطاولون ممّن شدَّا طرفًا من العلم ودرج في مدارجه ولم يبلغ الغاية منه، ففضحوا أنفسهم ولم يضرّوا الشّيخ شيئًا. وإمّا جهلة لا يفرّقون بين الصّواب والخطأ، وتجرّأوا على حِمى العلم، فتكلّموا بجهل فضلّوا وأضلّوا. وإمّا متعصّبون حاقدون ينطلقون من قناعات طائفيّة أو مذهبيّة، فلا عبرة بخالفهم ولا برأيهم. وهذا حال كبار العلماء على مرّ الزّمان يختلف النّاس فيهم، بين محبّ وقالٍ، وموافق ومخالف، ومنصف ومتعسّف، وشيخنا الإمام رحمه الله “كغيره من عظماء التّاريخ وقادة الفكر، لا بدّ أن يختلف النّاس في تقويمه ما بين مادح وقادح، سنّة الله في خلقه فلا عجب...” [القرضاويّ، الإمام الغزالي بين مادحيه وقادحيه، ص 3].إنّ حياة الشّيخ الإمام الطّويلة الأمد، العظيمة المدد، الحافلة علمًا وعملًا وإنجازًا، الكبيرة مآثرًا وأثرًا، وَسِيعةٌ جدًّا على مثل هذه المقام، فما هذا المقال إلّا قطرة صغيرة في بحره الخِضم الصّافي، وإنّ حقّ إمام العصر لا توفّيه كتب وأسفار، وقد كتبت كتب كثيرة عن حياته وعلمه وفكره في حياته، وأنجزت مئات الرّسائل الجامعيّة حول علمه ومؤلّفاته واجتهاده وتجديده، وعقدت عشرات النّدوات حول علمه وجهاده ودعوته وفكره، وسيكتب الكثير الكثير، والقصد من هذه الكلمة المقتضبة بيان حقيقة جليّة، قد تخفى على كثير من النّاس، ولعلّ (من شدّة الظّهور الخفاء!). وهي أنّ شيخنا إمام العصر جمع الله له فضائل جمّة مع تميّزه رحمه الله فيها.فالعلماء -والحمد لله- ما زالوا متوافرين موجودين، ولكن إذا ذكر علماء العصر الحديث فالقرضاويّ النّجم! ويكفي التّنبيه إلى أنّ أغلب العلماء درّسوا وألّفوا وأسهموا بما فتح الله عليهم، ولكن بعضٌ منهم ما زادوا على ترديد ما قرّره المتقدّمون، وإعادة إنتاج علومهم في لغة أو ترتيب معاصر، حتّى لو عدمت كتبهم لم نخسر شيئًا كبيرًا، وبعضهم أسهم في التّجديد وبحث القضايا المعاصرة وقدّم إسهامات جديدة، وعالج المشكلات المعاصرة، وجهدهم مأجور من الله تعالى مشكور من النّاس، ولكنّه محدود حجمًا وأثرًا. أمّا شيخنا الإمام فجعل غاية جهده ومقصد علمه الأساسي التّجديد، فكلّ كتبه وأبحاثه ومحاضراته تعالج القضايا المعاصرة، وتجيب عن اهتمامات المسلم في العصر الحاضر، فلو افترضنا أنّنا فقدنا كتبه سيرجع الفقه والفكر الإسلامي عقودًا من الزّمان. ويكفي لفهم هذا الملمح الهام مراجعة قائمة كتبه التّي قاربت الـ 250 كتابًا وكتيبًا توزّعت على التّأليف في القرآن وعلومه، والسّنّة وعلومها، والفقه وأصوله، ومقاصد الشّريعة، والاقتصاد الإسلاميّ، والعقائد، وفقه السّلوك والتّصوّف، والدّعوة والتّربية، وترشيد الصّحوة والحركة الإسلامية، والتّاريخ الإسلاميّ، والشّخصيات والتّراجم، والأدب والشّعر، والمواضيع الإسلاميّة عامّة. جمع هذا التّراث الغنيّ المتنوّع في ما يقارب الـ 150 مجلّدًا. فيها من الإبداع والتّجديد ما يشهد به العالمون المنصفون.ثمّ إنّ كثيرًا من العلماء لهم جهد مذكور مشكور في الجانب العلميّ والثّقافيّ والتّربويّ، ولم يمتدّ نشاطهم إلى غيره من المجالات، ولكنّ شيخنا إمام العصر، هو فارس منابر القول والعلم، وهو فارس ميادين العمل، فقد شارك في تأسيس وتسيير العديد من المؤسسات العلمية والخيرية والدّعوية، من أبرزها: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، المجلس الأوربي للإفتاء، الهيئة الخيرية الإسلامية العالمية، وزيادة على ذلك “هو عضو المجلس الأعلى للتربية في قطر، وعضو هيئة الإفتاء الشّرعي في قطر، ورئيس هيئة الرّقابة الشّرعية لمصر قطر الإسلامي، وبنك قطر الإسلامي الدولي، ولمصرف فيصل الإسلامي بالبحرين وكراتشي، ولبنك التّقوى في سويسرا، وعضو الهيئة لدار المال الإسلامي، وعضو مجلس الأمناء لمنظمة الدّعوة الإسلامية في إفريقيا، وعضو مجمع الفقه الإسلاميّ التّابع لرابطة العالم الإسلاميّ بمكّة المكرّمة، وخبير المجمع الفقهي التّابع لمنظمة المؤتمر الإسلاميّ بجدّة، وعضو مجلس الأمناء للجامعة الإسلامية العالمية في إسلام آباد، ومجلس الأمناء لمركز الدّراسات الإسلاميّة في أكسفورد، وعضو رابطة الأدب الإسلاميّ في لكهنؤ (تُلفظ: لُكْنَاوْ) بالهند، وعضو مؤسّس لجمعية الاقتصاد الإسلامي بالقاهرة، وعضو مجلس إدارة مركز بحوث إسهامات المسلمين في الحضارة في قطر، ونائب رئيس الهيئة الشّرعيّة العالمية للزّكاة في الكويت، وعضو المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية في مؤسسة آل البيت بالأردن”، إلى غيرها من المهام والمسؤوليات. وهذا الجهد الكبير في ميادين العمل، زيادة على الرّيادة العلمية والدّعوية شيء نادر، قلّما تيسّر لعالم من العلماء المعروفين. {ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيم}.هذا، ومن اللّازم هنا التّنويه إلى بديهية من البديهيات، وهي أنّ الإمام القرضاويّ رحمه الله تعالى، ليس معصومًا، بل يصيب ويخطئ مثل غيره من العلماء والبشر، ويؤخذ من كلامه ويترك ويردّ، وحتّى هو اعترف ببعض أخطائه وتراجع عنها، بل ببعض شذوذه في الفتوى كما ذكر في كتابه (الفتاوى الشّاذة)، ولا عيب عليه في ذلك، فلا يوجد عالم إلّا وغلط وأخطأ، بل اعترافه بالخطأ وإعلانه ذلك من نُبْلِه وخشيته لله تعالى. وفي الحديث: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثمّ أصاب فله أجران. وإذا حكم فاجتهد ثمّ أخطأ فله أجر». وأمّا في المواقف السّياسية فأمرها أيسر وأظهر، فليس في السّياسة قرآن منزّل ولا شرع محكم، وإنّما هي آراء واجتهادات وتقديرات، تصيب وتخطئ، ورأي عالم الشّرع فيها وموقفه مثل رأي وموقف أيّ مثقف آخر، بلا زيادة ولا نقصان. ورضي الله عن سعيد بن المُسَيِّب إذ يقول: “إنّه ليس من شريف، ولا عالم، ولا ذي فضل إلّا وفيه عيب، ولكن من النّاس من لا ينبغي أن تذكر عيوبُه: من كان فضلُه أكثرَ من نقصه وُهِبَ نقصُه لفضله”.*إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات