أخذتُ كتابًا لمنظمة إسلامية يحتوي على جزء من منهاج تربويّ تنتهجه في تكوين أعضائها، فإذا هو أجزاء ملفقة من كتب (وباء التنمية البشرية)، ولم أستغرب حين وجدتُه يبدئ ويعيد حول النّجاح وما يتعلّق به، فهذا ديدن مثل هذه الكتب، ولكنّ الّذي صدمني أنّي ألفيته يقدّم نموذجًا غريبًا غربيًّا غبيًّا للنّجاح، إذ ذُكر في ما ذكر فيه من نماذج النّاجحين، نموذج امرأة أمريكية (ناجحة) في مجال الأعمال والـ(business)، وتمتلك شركتها الخاصة (النّاجحة)، حيث تحقّق (نجاحها) هذا بعد قرار هام اتّخذته هذه (النّاجحة) المسكينة! وذلك أنّها كانت أمًّا لابنتين، زوجةً لسيناتور أمريكيّ، ممّا جعل مكانة زوجها المرموقة في الطبقة السياسية وفي المجتمع تغطّي عليها، وتضعها دائمًا في الظّلّ، ظلِّ زوجها السّيناتور! وظلُّ السّيناتور كما تعلمون طويل عريض! فلم يكن أمامها إلّا أن تطلّق منه حتّى تجد حرية أكثر وتصنع نجاحها بعيدًا عنه، وذاك الّذي كان، إذ بعد تطليقها للسيناتور أسّست شركة حقّقت نجاحًا، فصارت (ناجحة) بقرار الطّلاق بعد أن كانت (فاشلة) في سجن الزّواج والأسرة!لا أستغرب حال هذه المرأة المسكينة فهي بنت بيئتها، وبيئتها مادية بحتة، قد استبدلت المصنع والمتجر بالمعبد! والنّجاح الفردي بالأسرة والمجتمع! واستباحت كلّ شيء في سبيل تحقيق المتع المادية! وضحّت بكلّ شيء من أجل تحقيق الحلم الفردي الماديّ الدّنيويّ! وإنّما أتعجّب من حال المسلم الّذي لا ينتبه إلى أنّ المفاهيم مهما كانت برّاقة يجب النّظر إلى القيم الّتي تتأسّس عليها، وإلى الأوهام الّتي تزيّنها أو تستند إليها! فمن يضع معايير للنّجاح إنّما يضعها انطلاقًا من قيمه ومبادئه الّتي يؤمن بها، واستنادًا إلى نظرته للكون والحياة والإنسان! وهذا ما يختلف فيه النّاس! وهم أحرار في اختيارهم مسؤولون عنه! بيد أنّ الملام هو الّذي قلّد غيره دون وعيّ! واتّبع غيره دون تفكير! ورضي بمقام التّابع الّذي يحاكي غيره كالقرود ويقلّده آليًّا بكلّ فرح وابتهاج! ولا يلام أكثر منه إلّا أولئك (المدربون) الّذين شاركوا في دورات أسبوعية أو دورات أيّام معدودة طلعوا بعدها على النّاس ليعلّموهم كيفيات الحياة ودروب (النّجاح)! وهم يفتقدون الأهلية لذلك، كما يفتقرون إلى القدرات العلمية والفكرية الّتي تمكنّهم من إدراك الخلفيات الفكرية والمُستبطنات الإيديولوجية للدّورات التّكوينية المتقنة الأداء!!!إنّ الحضارة المادية الغربية المعاصرة قد حسمت أمرها في ما يتعلّق بـ(النّجاح) ومعاييره، وقد حصروه في شعب ثلاث: المنصب والنّفوذ، الأعمال والأموال، الشّهرة والنّجومية، فالنّاجحون هم ذوو المناصب والنّفوذ خاصة السياسيين، ولو كانوا فاسدين، مفسدين مجرمين دمّروا دولًا وشعوبًا كرؤساء أمريكا، أو اغتصبوا الحكم بالانقلاب أو تزوير الانتخاب كرؤساء دول العالم الرّابع! والنّاجحون هم رجال الأعمال الكبار وأصحاب القناطير المقنطرة المكنوزة، ولو كانوا فاسدين مستغلّين، جمعوا أموالهم بالحرام وبأكل عرق الغلابة الضّعفاء! والنّاجحون هم النّجوم والمشهورون من الفنانين والفنانات واللاعبين واللاعبات والإعلاميين والإعلاميات و(اليوتيوبيون واليوتيوبيات)، ولو كانوا فارغين وفارغات، قصارى ما يقدّمونه للنّاس لهو ولعب ولغو وسخف يجنون من ورائه الكثير الكثير...! فهل هؤلاء هم النّاجحون حقًّا!الحقّ أنّ أكثر ما يتكلّم عليه المنظّرون للنّجاح من الغربيين ومقلّديهم عندنا هو النّجاح المادي، والمالي منه تحديدًا، فليس ناجحًا عندهم إلّا مَن كسب الكثير وأنفق بتبذير! حتّى نجاح الكتاب صار يقاس بالأكثر مبيعًا! أي بكم يحقّق من أرباح ومداخيل بغضّ النّظر عن محتواه! بل حتّى من ورث ثروة فاحشة يعدّ ناجحًا عندهم مع أنّه (أو أنّها) لم يقم بشيء سوى أنّه وُلد لأسرة ثرية!!! فهل الغنى والثّراء نجاح عظيم حقًّا!لقد ذكر لنا القرآن العظيم نموذجًا لأعظم الأثرياء الّذين عرفهم تاريخ البشرية، فكيف كان موقف النّاس منه؟ يقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ..} فهذا الملياردير لا مثيل له من حيث ما يملك فهو ذو كنوز وليس كنزًا واحدًا... وهو يرى نفسه ناجحًا (وقافزًا) حيث يردّ على مَن ذكره بفضل الله عليه وتوسيع رزقه: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي}، وكذلك عامة النّاس يرونه إنسانًا ناجحًا يتمنّون لو كانوا مثله ولهم ثروته ومكانته: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}، ولكنّ العلماء العارفون بحقائق الحياة النّاظرون إلى بواطن الأمور كان لهم موقف آخر: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ}، ولم يستمع لهم أحد حتّى جاء أمر الله: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُون}.. ولا أدري كم هم الّذين كانوا يتمنّون مكانة بعض المسؤولين وثروة بعض رجال الأعمال، فلمّا أطبقت عليهم السّجون وأذيعت محاكماتهم، صاروا يقولون: {.. وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا..}.إنّ حصر (النّجاح) في معان محدودة وصور معدودة هو ظلم للحقيقة! وإنّ نشر هذا التّصوّر الغربي القائم على القيم المادية البحتة والمروج للأوهام المحضة هو حرب معلنة على الحقيقة! وإن كان أكثر المشاركين فيها لا يعلمون! وللأسف أنّ أكثرنا غافل عن حرب القيم المستعرة في هذه الأرض بين الأمم، وجاهل بكم الأوهام الّتي تُسوّق تحت عناوين برّاقة وشعرات خدّاعة! وأحسب أنّ من صور النّجاح المشرقة الّتي تكفي لهدم وهم (النّجاح) الغربي الّذي انبهر له أكثر النّاس نجاحُ ذلك الرّجل المحدود الدّخل الّذي لا يملك إلاّ القليل من المال، ويقضي حياته كلّها من أجل كسب لقيمات عيش له ولأسرته، في ظروف صعبة ومجتمع صعب وبيئة غير مساعدة، ويحقّق نجاحًا باهرًا بتربية أبنائه وبناته تربية صالحة ويحسن تعليمهم مع أنّه أميّ أو محدود التّعليم، فيكون منهم الدكتور والقاضي والطبيب... الخ، ينفعون مجتمعهم ويبنون دولتهم مع أبناء شعبهم، والعجيب حقّا أنّه يموت يوم يموت والنّاس تذكره بخير، ويموت نقيًّا ليس عليه دَيْن لأحد من النّاس! هذا والله هو النّجاح! وإذا لم يكن هذا نجاحًا فليس ثمّة نجاح في الدّنيا، ولكن أكثر النّاس مغرّر بهم وهم لا يشعرون! وقل مثل ذلك في تلك المرأة الّتي تدبّر شؤون بيتها بميزانية محدودة جدًّا جدًّا، وتواجه تحدّيات كبيرة جدًّا جدًّا، وتفني حياتها في تربية الجيل في سعادة ورضى، فيخرج من تحت يديها رجال صالحون ونساء صالحات ذوو أخلاق فاضلة حقًّا وتعليم عال جدًّا، وهي المسكينة الّتي لم تسمح لها ظروفها باستكمال تعليمها.. وقل مثل ذلك في الشاب (أو الشابة) الّذي ينجح (أو تنجح) في دراسته، ويستقيم في سلوكه، ويؤسّس بيته، ويربّي أبناءه في بيئة كالبيئة الّتي يعيش فيها شعوب العالم الرّابع...!كيف يقاس نجاح هؤلاء الباهر إلى ما يحقّقه شباب يعيش في الدول الإسكندنافية أو اليابان أو كندا! كلّ أسباب العيش متوفّرة لديهم وكلّ فرص النّجاح ميسّرة لهم! فالعجيب من هؤلاء هو عدم النّجاح، كما أنّ العجيب في أولئك هو ما حقّقوه من نجاح...! ألا فلنراجع معايير النّجاح عندنا، ولنتحاكم إلى قيمنا، ولنحذر الأوهام!!!إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات