هذه جملة من الإنجيل المحرّف [متّى 4: 1 - 11/ مرقس 1: 12 - 13/ لوقا 4: 1 - 13]، وقد تكون من بقايا الحقّ الّتي سَلِمَت كليًّا أو جزئيًّا من تحريف البشر وتلاعبهم بوحيّ الله تعالى، وسياقها في إنجيل متى كالآتي: “ثمّ أصعد يسوع إلى البرية من الرّوح، ليُجرّب من إبليس.. فتقدّم إليه المجرب، وقال له: إن كنت ابن الله، فقل أن تصير هذه الحجارة خبزًا * فأجاب، وقال: مكتوب: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكلّ كلمة تخرج من فم الله * ثمّ أخذه إبليس إلى المدينة المقدّسة، وأوقفه على جناح الهيكل * وقال له: إن كنت ابن الله فاطرح نفسك إلى أسفل؛ لأنّه مكتوب: أنّه يوصي ملائكتَه بك، فعلى أياديهم يحملونك؛ لكيلا تصدم بحجر رجلك * قال له يسوع: مكتوب أيضًا: لا تجرّب الرّب إلهك * ثمّ أخذه أيضًا إبليس إلى جبل عالٍ جدًّا، وأراه جميع ممالك العالم ومجدها * وقال له: أعطيك هذه جميعها إن خررت وسجدتَ لي * حينئذ قال له يسوع: اذهب يا شيطان؛ لأنّه مكتوب: للربّ إلهك تسجد، وإيّاه وحده تعبد”.لن أقف مع التّوحيد الّذي ينطق به هذا النّص، ويهدم دين النّصرانية من أساسه! ولا أقف مع تصريح سيّدنا عيسى عليه السّلام (يسوع في قولهم) بعُبُودَتِه لله وببشريته فيه!. فهذا خارج عن موضوعنا، فقط أحببت التّنبيه عليه، حتّى يعلم أنّه حتّى الأناجيل المحرّفة تقرّ بعبودية المسيح وبشريته، ولكن النّصارى لا يتلون الإنجيل كما نتلو نحن القرآن الكريم، فيبقى القُسس والأساقفة يختارون لهم ما يشاءون من مقاطع لموعظة الأحد، ويخفون عنهم الحقائق، فيبقون بذلك في جهل بكتابهم الّذي يقدّسونه، ويبقون في كفر وضلال مبين.أرجع إلى موضوعي. إنّ الّذي يهمّني من هذا النّصّ هو تلك الجملة الجميلة: “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكلّ كلمة تخرج من فم الله”، وهي حقيقة ناصعة لا تخفى إلّا على أعمى البصيرة أو جاهل أو متجاهل عنادًا وكِبْرًا، واخترتُ أن أبدأ هذا الموضوع منها؛ لأنّ تيار المادية الملحدة المعاصرة انبثق من صراع علماء الطّبيعة والفلاسفة الغربيين مع الكنيسة وأناجيلها المحرّفة وإرثها اللّاهوتي، ونتيجة لذلك سيطرت الرّوح المادية الإلحاديّة على البحوث العلميّة عامّة: التّطبيقيّة والتّقنيّة والطّبيّة والرّياضيّة والفيزيائيّة والإنسانيّة والاجتماعيّة والتّاريخيّة، ثمّ على النّظرة السّياسيّة والأدبيّة والثّقافيّة وعلى الحياة عامّة، فانحصرت نظرتهم للإنسان في جوانبه المادية، واقتصرت نظرتهم إلى احتياجاته على الحاجات المادية، فصار الإنسان في نظرهم: حيوان متطوّر يأكلّ ويشرب ويتمتّع! وأسقطوا الحاجات الرّوحيّة والنّفسيّة كلّيّة، وبشكل نهائيّ!رغم أنّ الجانب الغيبيّ في الحياة، وفي الإنسان بالخصوص أظهر من الظّاهر، بل هو أقوى ظهورًا من الجانب المادي بأثره الحاسم والقويّ، وصدق الله تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُون}، فيكفي أن ينظر الواحد من بني البشر لنفسه؛ ليستيقن أنّ الجانب الغيبي في كينونته أظهر وأقوى أثرًا في حياته، وهذا لا يحتاج لا إلى علم ولا فكر، بل يدركه حتّى الجاهل والأمّي.ومن الغربيين انتقلت عدوى المادية إلى أشباه المفكرين عندنا في ما استوردناه من أفكار ميتة أو مميتة منهم، وطبعًا “لا يجوز لنا أن نتساءل: لماذا توجد عناصر فكريّة قاتلة في الثّقافة الغربيّة؟ بل سؤالنا الّذي يجب طرحه هو: لماذا تمتص بالضّبط طبقتنا المثقفة في البلاد الإسلاميّة هذه العناصر القاتلة؟” [في مهب المعركة، ص 131 بتصرّف]؛ لأنّ من المؤسف حقًّا أنّ قطعانًا كبيرة من النّخبة المثقّفة عندنا، من أشباه المفكرين، وأشباه الباحثين، وأشباه الكتّاب والأدباء، وأشباه الإعلاميين والفنانين تبنّوا النّظرة الغربية للحياة والإنسان والدّين بغثّها ونتنها، وبعضهم صار غربيًّا ماديًّا أكثر من الغربيين أنفسهم!.ومن حمق أكثرهم إصرارُهم العجيب على فرض هذه النّظرة المستوردة على جموع الشّعوب العربية والإسلامية! وإصرارهم الغريب على وجوب أن نتماهى مع تاريخ أوربا ونتبعهم حذوة القذّة للقذّة حتّى ندخل جحر الضّب معهم! فتراهم كلّما تكلّم المصلحون على ضرورة الحفاظ على ديننا وتديّننا. وضرورة التّمسّك بلغتنا العربية فصيحة سليمة. وضرورة استبدال لغة المستعمر [الفرنسية] باللغة العالمية [الإنجليزية]، وضرورة وقف التّردّي الأخلاقي، وشيوع الفسق والمجون. وضرورة مقاومة المدّ العلمانيّ والرّأسمالي المتوحشّ وما أدّيَا إليه من غلبة المادية على النّاس، وما نتج عن ذلك من أضرار. وضرورة مناصرة القضايا العادلة، وفي مقدّمتها القضية الفلسطينية. وضرورة بناء نموذجنا الحياتي الخاص بعيدًا عن الذّوبان في الآخر. وضرورة العلم بالأزمات الّتي يعيشها الغرب جرّاء الاستئسار للنّظرة المادية الإلحادية، من حروب وشيوع للشّذوذ بكلّ أنواعه، وذيوع لأنواع من الإدمان لم تكن معروفة في السّابق، وظهور لآفات اجتماعية لم تعرفها البشرية، وارتفاع مرعب للأمراض النّفسية، واغتراب وإلحاد وتوحّد واللاانتماء.. الخ، تراهم يهاجمونهم بالرّجعية والاشتغال بالحروب الإيديولوجية، والتّمسّك بالهُوية والصّراعات الهوياتية.. الخ، مضغًا للمصطلحات وترديدًا للأفكار المترجمة ترديدَ الببغاء! مؤكّدين على فكرة أنّ النّاس لا يهمّهم الهُوية والإيديولوجية بقدر ما يهمّهم التّطور المادي وإشباع حاجاتهم المادية!! زعمًا منهم أنّ الإنسان يحيَا بالخبز فقط (الخبز رمز للماديات) أمّا كلمات الله تعالى ووحيُه فلا تهمّه (كلمات الله تعالى تخاطب الجانب الرّوحي السّامي من النّاس)!وكلّ هذا مغالطات سخيفة يكذّبها الواقع، فالهُوية و(الإيديولوجية) أمر هام جدًّا للإنسان، ولولا الهُوية التّي بها يتميّز النّاس لكُنّا مثل قطعان الحيوان نأكل ونشرب ونتمتّع ونموت في النّهاية، قال الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ}، {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ * ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُون}، فهل يودّ هؤلاء لو كنّا كافرين؟!إنّ هذه المغالطة السّخيفة هي التّي روّجت لفكرة المواطن العالمي، وما ثمّ إلّا سعيّ لإيجاد مواطن معولم! يتنازل عن هُويته و(إيديولوجيته) ليتشرّب بدلها إيديولوجية الغرب وهُويته، فيترك لغته وتاريخه؛ ليتماهى في تاريخ الآخر ولغته، ويترك دينه ومسجده؛ ليصير عبدًا للشّركات الرّأسمالية والماركات العالمية، يتعبّد في السّوبر ماركت ومواقع التّسوق الالكتروني!وهذه المغالطة السّخيفة هي التّي جعلت بعض الحمقى عندنا يمجّدون الاستعمار، ويعلنون بلا حياء أمانيهم (الحَرْكِية) المكبوتة: لو بقى الاستعمار لكان أفضل!. ظنًّا منهم أَنْ لو بقي الاستعمار الفرنسي المتوحّش لكان وضع الجزائر اقتصاديّا كوضع فرنسا!؛ لأنّهم لا يهمّهم إلّا الجانب المادي، أمّا الدّين والهُوية والإيديولوجية فلا قيمة لها، والتّمسّك بها تخلّف... ولكنّ الإنسان لا يحيا بالخبز فقط!!*إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات