حدثني صديقى، ذات مرة، أنه أُدْخِل إلى المستشفى عندما كان طالبا في الولايات المتحدة الأمريكية من أجل إجراء عملية جراحية لقلبه، وقد شاركه في غرفة التمريض أمريكي في الأربعينيات من العمر، جيء به للمستشفى من أجل استئصال ورم خبيث، لقد كان مصابا بسرطان الرئة، عفاكم الله منه، فنشأت بينهما ألفة فرضتها ظروف المرض، ومساعدة صديقى له في الغرفة على تدبير أمره في المستشفى. وبمقتضى هذه الآفة، كان صديقي يتستر عليه أمام طبيبه الذي يسأل عنه عندما لا يجده في سريره. لقد كان الأمريكي يتسلل من سريره خلسة عن أعين الممرضين، ليختلي بنفسه من أجل تدخين سيجارة على عجل! فالتدخين كان محظورا عليه.حدث هذا بعد أيام قليلة من قصف الطائرات الحربية الأمريكية لليبيا في 15 أفريل 1986 كرد فعل على الانفجار الذي تعرض له ملهى ليلى في برلين الغربية، كان الجنود الأمريكيون يترددون عليه كثيرا. وشنت الولايات المتحدة الأمريكية، إثره، حربا إعلامية على ليبيا لم تنته إلا في 2008؛ أي بعد أن عوض معمر القذافي أهل ضحايا الحادث المذكور.لقد كان هذا الأمريكي يسرد لصديقي بعض المقتطفات من حياته المهنية والاجتماعية بين الحين والآخر. وأسرّ له، ذات مرة، أن أشد ما يفزعه هو أن يصطدم بصورة معمر القذافي عند استفاقته من التخدير بعد إجراء العملية الجراحية! وقد اندهش صديقى مما أسر له به، ليس لكونه عربيا أو منافحا عن سياسة القذافي ومواقفه، بل لاعتقاد زميله الأمريكي الراسخ أن معمر القذافي يشكل خطرا عليه شخصيا أكثر من مرض السرطان الذي ينهش جسده. لقد نسى همه، ولم ينتبه إلى خطورة العملية الجراحية التي ستجرى له، ولم يفكر في مسار حياته إن كتبت له الحياة بعدها، فكرهه لمعمر القذافي صرفه عن كل هذا.لا أذكر هذه القصة من باب نكء الجرح الليبي أو تقييم مواقف معمر القذافي أو سياسة الرئيس الأمريكي رولاند ريغان، فالرجلان الآن أمام خالقهما، وإنما للقول إن صديقي كان يستخدمها كحجة دامغة للتأكيد على جبروت وسائل الإعلام في قولبة التفكير، ودورها في غسيل مخ البشر.لقد أخبرت صديقي أن هذه الحادثة شاذة، والشاذ يحفظ ولا يقاس عليه. أي أن هذا الأمريكي يشكل حالة استثنائية أو منفردة، وبالتالي من الصعب التعامل معها كظاهرة اجتماعية أو حتى كحالة متواترة. وإن اتفقنا مع ما ذهب إليه صديقى فهذا يعني أننا ننفي وجود أشخاص لا يصدقون ما تنشره وسائل الإعلام، ولا نؤمن حتى بوجود من يشكك في روايتها للأحداث، وبهذا نطعن، دون حجة علمية، في البحوث التي تؤكد تزايد عدد الأشخاص الذين يتحفظون على ما تنشره أو تبثه وسائل الإعلام إلى درجة أن بعضهم اتجه إلى المواقع الإخبارية والشبكات الاجتماعية الافتراضية للاطلاع على الأحداث. وهذا لا يعني بتاتا أن هذه المواقع الإلكترونية أكثر مصداقية من وسائل الإعلام الكلاسيكية، بل للتحرى حول صحة ما تنشره هذه الأخيرة في بعض الأحيان، وبعضهم لا يكف عن ذكر مثالب وسائل الإعلام التقليدية وما بها من زيغ. من المحتمل أن يكون هذا الأمريكي مدمن أخبار عبر وسائل الإعلام أو مجرد متابع لها. ومن الممكن، أيضا، أن يكون من الأشخاص الذين لا يتابعونها بانتظام أبدا، بل يتعرض لها بشكل عرضي في أحيان كثيرة. لكن كيف نفسر ما أسر به لصديقي؟ ربما الإجابة يقدمها لنا “مفهوم السديم الإعلامي” الذي نحته بعض الباحثين، خاصة عالمة الاجتماع الأمريكية “دانا بويند” التي ترى أن الإنسان الذي لا يتخذ موقفا سلبيا من وسائل الإعلام ليس بالضرورة ذاك الشخص الذي يدمن على متابعتها، بل إنه ذاك الذي يتعرض إلى إنزال من الأخبار والمعلومات من مصادر مختلفة. فالانفتاح على الإعلام المتدفق حولنا يعني التقاط الأخبار في الوقت المناسب إذا كانت هامة وثمينة، وتسلوية وأكثر ثراءً، فنعيش معها وفيها وحولها. وفي الكثير من الأحيان تقوم شبكة العلاقات الاجتماعية القائمة في حياتنا اليومية، بلفت نظرنا إليها أو تعقب على بعض التفاصيل التي أغفلناها أو توجه فهمنا لها.www.nlayadi.com
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات