+ -

 يروي الإمام البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “تَعِسَ عبدُ الدّينار، تعس عبد الدّرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، إنْ أُعطي رضي، وإن لم يُعطَ سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش”.هذا الحديث من أحاديث الرّقائق الّتي علّمنا إيّاها عليه الصّلاة والسّلام وذكَّرنا بها، فقد دعا عليه الصّلاة والسّلام بالخيبة والهلاك على الّذي يجعل المال غاية وهدفًا، فقال: “تَعِسَ عبد الدّينار” أي: شقي وهلك وانكبّ على وجهه، فقوله: “عبد الدّينار” أضاف العبودية إلى الدّينار؛ لأنّ هذا النّوع من النّاس تعلّق قلبه به كما يتعلّق الرّضيع بثدي أمّه، فعابد الدّينار يجعله أكبر همّه، بل ويقدّمه على طاعة ربّه.فهذا حال مَن يعبد الدّنيا ويتذلّل لها ويخضع لها، فتكون مُناهُ وغايتَه، فيغضب من أجلها، ويرضى من أجلها، ولذلك سمّاه عليه الصّلاة والسّلام عبدًا، إنّه يجمع الدّينار والدرهم من الذّهب والفضة من أيِّ وجه كان، قد سخَّر حياته لهذا الجمع، وهذه التنمية لهذه الدّنانير والدّراهم يقدّمها حتّى لو تعارضت مع شرع مولاه، ولذلك كان عبدًا لها.وقوله: “تَعِسَ عبد الخميصة، تَعِسَ عبد الخميلة”، الخميصة والخميلة: نوعان من القماش والثّياب، فالخميصة: كساء جميل، والخميلة: فراش وثير، فهذا الرّجل متعلّق قلبه ليس بالدّينار والدّرهم فقط، وإنّما أيضًا بالمفارش والثّياب، وبالحلل والأثاث، فقلبه متعلّق بالدّنانير والدّراهم وما يلبس وما يفرش، فكلّ همّه في هذه الأشياء، فهو عبد لها، فسمّاه عبد الخميصة وعبد الخميلة، وقد جعل الدّين وسيلة للدّنيا، فالدّنيا عنده أعظم وهي الأساس.وهكذا تتوالى الأدعية من النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم على عابد الدّنيا، فيقول: “وإذا شيك فلا انتقش” يدعو عليه إذا أصابته شوكة ألّا يجد مَن يخرجها له بالمنقاش، ولا يستطيع أن يخرجها هو، فيصبح عاجزًا عن السّعي والحركة، وهذا الرّجل كلّ سعيه وحركته من أجل الدّنيا، فدعَا عليه دعاء يعطّله عمّا نذر نفسه له من الدّنيا، ويدعو عليه ألّا يستطيع أن يحصلها، وأن يقعد به المرض، فتقعد به صحّته عن مواصلة السّعي بالدّنيا، وإذا وقع في البلاء لا يجد مَن يترحّم عليه؛ لأنّ مَن وقع عليه البلاء فرحمه النّاس وعطفوا عليه ورقوا له يهون عليه الخطب.ثمّ قال في الحديث: “إن أُعطي رضي وإن لم يُعطَ سخط”، هناك نوع من البشر إذا أعطاه ربّه شيئًا من حطام الدّنيا يفرح وتنفرج أساريره، وإذا ما قدَّر عليه رزقه قال: ربّي أهانن، سخط على ربّه، وسخط على القضاء والقدر، فحاله كحال المنافقين: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ، فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ}، إذا هذا يرضى إذا أُعطي، وإذا لم يُعطَ فهو ساخط وغاضب، يسُبّ ويَلعَن؛ لأنّ الهدف عنده هو المال، فتراه ساخطًا على قضاء الله وقدره، قائلًا بلسان حاله أو بلسان مقاله: لماذا أنا فقير وفلان غنيّ! فهو لا يفقه أنّ الله يعطي الدّنيا مَن يُحبّ ومن لا يحبّ: {كُلاًّ نُمِدُّ، هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ، وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}، إنّ هذا الرّجل يظنّ أنّ الله إذا أعطاه فإنّما هو يحبّه، فهو لا يعي أنّ المِنحة قد تكون محنة: {فَأَمَّا الإنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ، وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ}.إنّ النّظرة الشّرعية للمال، أن يؤخذ من حلال، ولا يعبد، وألّا نسخط إذا حرمنا ونرضى إذا أعطينا، وما نحتاج إليه نسعى إليه، وما لا نحتاج إليه لا نتعلّق به، وما حصل لنا منه فلسنا نحبّه ونُتَيَّم به ونهيم من أجله، ولا يكون حبّنا وكَربنا من أجل المال، ومن أعطانا أحببناه ومن منعنا كرهناه، ونؤدّي حقّ الله فيه من الزّكاة والصّدقات، ونصل منه أرحامنا، ونفعل فيه بالمعروف، وفي الحديث: “نِعْمَ المال الصّالح للرّجل الصّالح”.ولنعلم أنّ الإسلام يريد من أهله أن يكونوا أغنياء أقوياء، لا مهازيل ضعفاء، أغنياء بمالهم ليكون سياجًا لدينهم: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ ٱلْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا}، فإنّ الأمم تنتصر بالمال الصّالح والولد الصّالح، لا بالصعاليك والبُله، لكن يوم يكون مالها أداة ترف، ومصدر استعلاء وطغيان، يعبث به الأغنياء، فالويل والخسران لأمّة، أورثها مالها هذه الحال. والله وليّ التّوفيق.* إمام مسجد عمر بن الخطّاب، بن غازي - براقي

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات