+ -

أخرج أبو داود في سننه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم المسجد فإذا هو برجل من الأنصار يقال له: أبو أمامة، فقال: “يا أبا أمامة ما لي أراك جالسًا في المسجد في غير وقت الصّلاة”؟ قال: هموم لزمتني وديون يا رسول الله، قال: “أفلا أُعلِّمُك كلامًا إذا أنت قلته أذهب الله عزّ وجلّ همّك وقضى عنك دينك”؟ قال: قلت: بلى يا رسول الله، قال: “قُل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الهمّ والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدَّيْن وقهر الرّجال”.إنّ كثيرًا من النّاس من عظُم بطنه، ونبت لحمه، وقوي عظمه بمال غيره، إن استدان ديْنًا جحده، وإن استقرض قرضًا تظاهر أنه نسيه، ترى كيف يهنأ بالطعام والشراب والمنام من هذا حاله، وذاك مثاله: “كلّ المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه”، لقد قرّر سادتنا العلماء قاعدتهم المشهورة: “حقوق العباد مبنية على التّضييق والمشاحة، وحقوق الله مبنية على التّيسير والمسامحة”، ولنستمع إلى المصطفى صلّى الله عليه وسلّم وهو ينبّه إلى مراعاة حقوق العباد: “لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا بطيب نفس منه”، فلو تأمّل المديون ذلك لسارع إلى سداد ما عليه من الديون؛ لأنّه يتمتّع بمال ليس له: “من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلّله منها، فإنّه ليس ثمّ دينار ولا درهم، من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيّئات أخيه فطرحت عليه”، فيا له من وعيد شديد، وتهديد أكيد، لمن أكل أموال النّاس واحتال، لا شكّ أنّ أمره في سفال، وعاقبته إلى وبال. الدَّيْن المشكلة العويصة الّتي لزمت الكثير من النّاس، فكم جرَّت من تبعات ومن خطوب، كذب وتملّق، وهروب وتحملق، فيا أيّها المديون أدِّ ما في ذمّتك من مال، ولو كان بسيطًا في نظرك، فإنّ ميزان الله تعالى يحصي مثاقيل الذّر، فلا تُظلم نفس شيئًا، فعند الله ليس ثمّة دينار ولا درهم، إنّما هي الحسنات والسّيّئات، واعلم أنّ الحاجات لا يقضيها إلّا فاطر الأرض والسّموات، جاءت فاطمة رضي الله عنها إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم تسأله خادمًا فقال لها: “قولي: اللّهمّ ربّ السّموات السّبع وربّ العرش العظيم، ربّنا وربّ كلّ شيء، منزل التّوراة والإنجيل والقرآن، فالق الحبّ والنّوى، أعوذ بك من شرّ كلّ شيء أنت آخذ بناصيته، أنت الأوّل فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظّاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقْضِ عنّي الدَّيْن وأغْنِنِي من الفقر”.وعلى صاحب الدَّيْن أن يتوكّل على الله في وفاء دينه، وأن يسارع إليه حالًا، وهذه قصة عظيمة في الموضوع، ورد في الصّحيح أنّ رجلًا من بني إسرائيل سأل بعض بني قومه أن يسلفه ألف دينار، فقال: ائتني بالشّهداء أشهدهم، فقال: كفى بالله شهيدًا، ما عندي أحد يشهد، كفى بالله شهيدًا، قال: فائتني بالكفيل، قال: كفى بالله كفيلًا، ما عندي أحد يكفلني، قال: صدقت لما لمس صدق صاحبه قال: صدقت كفى بالله شهيدًا وكفى بالله وكيلًا، فدفع إليه المال إلى أجل مسمّى، فخرج الّذي أخذ الدَّيْن في البحر ليتاجر به، فقضى حاجته، تاجر وربح، ثمّ التمس مركبًا يركبها ليقدم على صاحبه لأنّ الأجل قد حلّ، فلم يجد مركبًا، فأخذ خشبة فنقرها، وحفرها وجوفها فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة منه إلى صاحبه يذكر فيها حاله، وأنّه لم يستطع أن يأتي وهذه حيلته، ثمّ زجّج موضعها (أقفل على موضع الفتحة)، ثمّ أتى بها إلى البحر فقال: اللّهمّ إنّك تعلم أنّي كنت تسلّفت فلانًا ألف دينار فسألني كفيلًا فقلت: كفى بالله كفيلًا، فرضيَ بك، وسألني شهيدًا فقلت: كفى بالله شهيدًا، فرضيَ بك، وإنّي اجتهدتُ أن أجد مركبًا أبعث إليه ماله فلم أجد، وإنّي أستودعكه، والله عزّ وجلّ إذا استودع شيئًا حفظه، فرمى به في البحر، هذه الحيلة الّتي يستطيع عليها، حتّى ولجت فيه، ثمّ انصرف وهو مع ذلك يلتمس مركبًا يخرج به إلى بلده، فلم يكتفي بإلقاء الخشبة وإنّما راح يلتمس مركبًا، فخرج الرّجل الّذي كان أسلفه لعلّ مركبًا قد جاء بماله، ينظر صاحب الدَّيْن خرج في الوقت المحدّد إلى السّاحل، هل قدم مركب بالمال الّذي أسلفه في الموعد المحدّد؟ فما وجد مركبًا، وإنّما وجد الخشبة الّتي فيها المال، فأخذها لأهله حطبًا، قال: آخذها لأهلي حطبًا، فلمّا نشرها وجد المال والصحيفة، ثمّ قدم الّذي كان أسلفه، وجد مركبًا فجاء، فأتى بألف دينار أخرى، يظنّ أنّ تلك قد ضاعت، وقال: والله ما زلت جاهدًا في طلب مركب لآتيك بمالك فما وجدت مركبًا قبل الّذي أتيت فيه، هذا أوّل مركب رأيته، قال: هل كنت بعثت إليَّ شيئًا قبل ذلك؟ قال: قلت لك إنّي لم أجد مركبًا قبل الّذي جئت فيه!! قال: فإنّ الله قد أدّى عنك الّذي بعثتَ في الخشبة، فانصرِفْ بالألف دينار راشدًا.* إمام مسجد عمر بن الخطّاب، بن غازي - براقي

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات