سؤال مشروع أن نسأل عن تلك المسارات الّتي عرفتها المنظومة التربوية تحت شعار الإصلاح، هل تلك اللّجان أصلحت المنظومة التربوية أم أفسدتها؟ فلجان الإصلاح المتوالية أهدرت سنين من عمر الأمّة الجزائرية، وقامت بتجارب كثيرة على أجيال من الجزائريين، وصرفت الملايير الممليرة من أموالهم العامة، أفلا يجب أن تُقوّم هذه اللّجان ونتائج عملها؟ أفلا يجب أن يحاسبوا على الملايير المهدرة؟ والسّنين الضائعة؟ أظنّ أنّ هذا من أوجب الواجبات وأؤكد الفروض؟نسمع كلامًا كثيرًا حول الموضوع من المتخصّصين ومن غيرهم، بعضه يزيّن الحال ويبشر بخير مآل، وبعضه يندب الحال ويتخوّف من سوء المآل، والحقّ أنّ الوضع مريع، والواقع فظيع، والمستقبل مظلم. رغم ما نسمع من كلام كبير وأرقام كثيرة، ومصطلحات رنّانة!، ذلك أنّ حقيقة حال المنظومة التربوية (المصلّحة) لا تحتاج لعلم، ولا لتخصّص، ولا لدراسات ميدانية، ولا لوثائق، للحكم عليها وعلى الإصلاحات الّتي طبّقت عليها، فالأمر أوضح من الشّمس في رابعة النهار! والجميع يعرفه العالم والجاهل، والأميّ والكاتب، والبعيد والقريب، ولا يمكن أن تخفيَه تصريحات ولا إحصاءات، ولا غيرها، إنّه الفشل! إن لم يكن الأمر أسوأ من الفشل! حقيقة (الإصلاحات) هو تراجع المستوى الرّهيب لتلاميذنا وطلّابنا، هذا الضعف المرعب الّذي ما عاد خافيّا على أحد، ولا ينكره إلاّ مكابر، هو العورة الفاضحة لحقيقة هذه الإصلاحات الّتي لا يمكن تغطيتها، لا أتكلم على التراجع المستوى الأخلاقي والتربوي في المدارس والجامعات فتلك مصيبة أخرى، بل المستوى العلمي الدّراسي، ومعلوم أنّ دروس المؤسسات التعليمية الرسمية العمومية والخاصة لم تعدّ كفيلة بإفهام التلاميذ في كلّ الأطوار، ولم يعدّ ثمة مهربٌ من الدّروس الخصوصية، الّتي أثقلت كاهل الأسر ماديّا، وكاهل التّلاميذ نفسيّا وبدنيّا، والأغرب الأعجب أنّه مع هذه الدّروس الخصوصية ما يزال المستوى في تراجع، ودعك من الحديث عن الغشّ، الّذي استشرى وانتشر، وصار من المنكر المعروف الّذي يُنكر إنكارُه ويُفرِحُ انتشارُه! حتّى وصل الأمر إلى الغشّ الجماعي في البكالوريا وغيرها، وتحت إشراف الأساتذة المراقبين! إلى الغشّ الولائي، إذ أنّ الغش الجماعي صار هو الأصل في بعض الولايات!من المضحك المبكي أن نسمع عاقلاً يتحدّث عن نتائج الإصلاحات وتطوير المنظومة التربوية فنجده يسرد علينا أرقامًا ونسبًا: ارتفاع عدد المتمدرسين، ارتفاع نسبة النّجاح في امتحان شهادة المتوسط، ارتفاع نسبة النّجاح في مسابقة البكالوريا، ارتفاع عدد الطلاب في الجامعات، ازدياد عدد المؤسسات التربوية في كلّ الأطوار، وجود جامعة أو مركز جامعي في كلّ ولاية، ازدياد عدد المعلمين والأساتذة، تطوير الكتاب المدرسي وطباعته... الخ، وهذه كلّها معايير كمية، وكأنّ هؤلاء المتحدثين يقيسون نجاح الإصلاحات المُدّعاة بالميزان؟! طبعًا يزيدون على ذلك نثر بعض البهارات من مصطلحات طنّانة وكلمات جميلة يلوكونها للإبهار: المقاربة بالكفاءات، الجيل الثاني، التطوير والتجديد، تحسين المستوى... الخ، وكلّ هذا (هفٌّ ولفٌّ)، فالواقع الّذي لا يجهله أحدٌ شاهدٌ صِدْقٌ أنّ مستوى المعلمين والأساتذة تراجع تراجعًا رهيبًا في العموم، وأنّ مستوى التلاميذ والطلبة وصل إلى حدّ كارثيّ، فأغلب أبنائنا وبناتنا يعانون أمية قاتلة وجهلاً فظيعًا مع أنّهم يتحصّلون على نقاط جيّدة ومعدلات مرتفعة!!إنّ الإصلاحات في مجال التعليم لها معيار واحد فريد للحكم عليها، وهو المستوى العلمي والمعرفي للتلاميذ والطّلبة، نعم فنيّا وتقنيّا قد توضع عدّة معايير ومؤشرات، ولكنّها معايير ومؤشرات هامشية، وقد تصير خادعة ومغالطة، إذا زاحمت المعيار الأوحد الأكبر الّذي هو مستوى خريجي هذه المنظومة التربوية، الّتي عانت من الإصلاحات طويلاً؛ لتصل في النهاية إلى المستوى الهزيل الّذي نعاني منه.إنّ ممّا لا شكّ فيه أنّ تطوير المنظومة التّربوية ونجاحها لا يمكن أن يتحقق إلاّ في إطار تحسين المنظومة الحياتية كلّها وفي كلّ الجوانب، فالتلميذ والمعلم والمدرسة جزء من كلّ، ولا يتصور أن نحقّق نجاحات في مجال التعليم دون تحسين الوضع الاجتماعي للأستاذ والتلميذ والإداري، ولا يتصوّر أن نحقّق نجاحات في مجال التعليم والمجتمع يعاني صراعًا أو تحوّلاً قيميًا، وتراجعًا مخيفًا في القيم النبيلة أمام القيم المادية القاسية. نعم لا يتصوّر هذا، ولكن هذا لا يعفي المسؤولين والمباشرين لهذه الإصلاحات من المساءلة، فالحديث الشّريف الّذي يحفظه الكلّ إذ صار مثلاً وقاعدة أخلاقية وقانونية يقضي بأنّه: «كلّكم راعٍ، وكلّكم مسؤولٌ»، رواه البخاري ومسلم. فلا بدّ أن يحاسب كلّ من تولّى عملاً وأهدر أموالاً، وعِظم المسؤولية تزداد كلّما كان موضوعها هامًا وخطيرًا، ولا أعظم من مسؤولية المنظومة التربوية الّتي يخضع لتأثيرها كلّ أبنائنا قهرًا بحكم القانون لسنوات طوال، وكثير منهم تضيع أعمارهم وأزهى سنواتهم في حمل محافظ ثقيلة جدًّا؛ لتكون النتيجة ضعف شديد في المستوى، بسبب إصلاحات أفسدت المنظومة التربوية! فهل يعقل أن يتولّى هذه المسؤولية متولٍّ، ثمّ بعد هدر سنوات من العمل وملايير من الأموال يصير المستوى التعليمي عامة إلى ما صار إليه، ولا يحاسب هؤلاء المشرفون على هذه الجريمة، ولا يحاكمون، وكأنّه لا علاقة لهم بالأمر البتة! ولا يتحمّلون أيَّ مسؤولية تجاه الوضع؟! وهم جالسون في راحة على أرائكهم، وربما يُشكرون ويُكرّمون على ما قاموا به! والأغرب أنّهم يلعنون الحضيض الّذي وصل إليه التعليم في بلادنا! ويلعنون من تسبّب فيه! وطبعًا هم وغيرهم يتفنّون في لعن الأجيال الجديدة من أبنائنا وبناتنا الّذين ضعُف مستواهم وضعُفت رغبتهم في التعلّم... وكأنّهم هم المجرمون وليسوا ضحايا لإصلاحات المنظومة التربوية!إنّ الله عزّ شأنه يقول: {إِنَّ اللهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِين}، وهذه قاعدة ربّانية وقانون قرآنيّ، فالإفساد لا ينتج عنه صلاح، والإصلاح لا ينتج عنه فساد، وما سمّي بإصلاح المنظومة التربوية يحكم عليه من نتائجه، وهي ظاهرة للعيان لا يختلف عليها اثنان: ضعف وتراجع مستمرّ! ووضع كارثيّ مخيف. وهذا يوجب علينا محاسبة القائمين بذلك، ويتطلّب منّا شجاعة في مواجهة الحقيقة لاتّخاذ الإجراءات الكفيلة بتدارك الأمر، فقد فات الأوان منذ مدّة، ولكن الاستدراك يبقى دائمًا متاحًا، وليس مستحيلاً إن وجدت الإرادة الصّادقة والقوية. ومن رأى في حكمي شدّة أو مبالغة فليخرج رأسه من رمال الأوهام وينزل للمؤسسات التعليمية وينتظر المستوى الّذي تتخبّط فيه، وليقرّر بعد ذلك: هل أصلحوا المنظومة التربوية أم أفسدوها؟!* إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات