شهدت بلادنا، هذه الأيّام، حوادث مرور رهيبة راح ضحيتها العشرات من الأرواح البريئة؛ ففي يوم واحد (يوم الجمعة الماضي) سقط أكثر من عشرين قتيلا وعشرات الجرحى، ممّا يتطلّب منّا التّنبّه ودقّ ناقوس الخطر لهذه الظاهرة المتفاقمة، الّتي هي في تزايد مستمرّ.إنّ حوادث السّير أصبحت من أهمّ المشكلات الّتي تواجه الأوطان والّتي تهدّد سلامة وأمن المجتمع والمواطنين. وهي ثاني أهمّ أسباب وفيات الأحداث والشّباب في العالم بعد الحروب والنّزاعات المسلّحة.وتخبرنا العديد من الدّراسات المرورية أنّ حوادث الطرق لا تقع مصادفة، إنّما معظمها نتيجة أخطاء وإهمال السّائقين، وعدم أخذهم بمبدأ الحيطة والحذر، وتنادت الكثير من حكومات العالم والجمعيات الأهلية للحدّ من هذه الحوادث الّتي أصبحت تشكّل خطرًا حقيقيًا يتهدّد مجتمعاتها خاصة بعد أن أصبحت هذه الحوادث تمتاز بدموية بشعة وتخلّف أضرارًا مادية كبيرة على طرقاتنا.والأصل أن تكون الطرق واسعة معبّدة صالحة لسير المركبات فيها بأمان كامل على أنفسهم وأموالهم... ومن باب تحمّل المسؤولية في تسهيل الطرق ما فهمه عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنّ الحاكم مسؤول عن تسهيل الطرق وأنّها من مهمّاته الأساسية الّتي يجب أن يعطيها اهتمامه يقول: “والله لو تَعثّرَت بَغلة في العراق (وهو في المدينة) لحاسبني الله عنها لِمَ لمْ تُصلِح لها الطريق يا عمر”.إنّ الوقاية المرورية هي تدابير فعلية عملية قبلية وليست بعدية أي بعد حصول الحوادث المرورية، وأولى خطوات الوقاية هي نشر التّوعية والتّربية والثقافة المرورية لكافة شرائح المجتمع وخاصة الشّباب والأطفال لترسيخ الالتزام الطوعي بآداب وقواعد وأنظمة المرور وخطورة حوادث السّير على الفرد والمجتمع.لقد سبقت الشّريعة الإسلامية النّظم الوضعية في وضع القواعد والأحكام المنظمة لأحوال السّير على الطرق وشروطه وآدابه وأحكامه، من ذلك القاعدة المرورية التالية “المرور في طريق المسلمين مباح مقيّد بشرط السّلامة فيما يمكن الاحتراز عنه”.ومن القواعد المهمّة الّتي تضبط حقوق النّاس في حوادث المرور؛ قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: “لا ضرر ولا ضرار”، وهذا الحديث يقرّر قاعدة كلية هي من مبادئ الشّريعة الإسلامية من رفع الضّرر وتحريم الإضرار بالغير، وهذا الحديث إذا تأمّلنا فيه لا يكتفي بتحريم إضرار الغير فقط، بل يشير إلى وجوب الضمان على من سبّبه.إنّ الحذر وعدم التّفريط في الأمور اتّكالًا على القدر أمر مطلوب في الدّين، فإذا كان لكلّ قدر سبب فإنّ من أسباب النّجاح في العمل هو الأخذ بالأسباب، وكذا فإنّ سبب الخيبة والفشل هو التّفريط وترك العمل.ففي مدح التُّؤدَة والأَناة في كلّ الأمور كلّها يقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم في وصف رجل: “إنّ فيك لخَصلتين يُحِبُّهما الله: الحِلم والأَناة”. ويقول الله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، فهذه الآية تشير إلى أنّ المسلم المتهوّر الّذي لا يقدّر الأمور ولا يعرف أن السّرعة الزّائدة في وسائل النّقل المختلفة تؤدّي إلى الخطر والهلاك، هو بهذا التّصرّف الأرعن يضرّ بنفسه وهو مفرّط في أمره.ومن توجيهات القرآن الكريم قوله تعالى: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ}، ففي هذه الآية يظهر أنّ لقمان عليه السّلام رسم لابنه الخُلُق الكريم الّذي ينبغي أن يستعمله وهو التّوسُّط في المشي والقصد هو التّوسّط في المشي ما بين الإسراع والبطء، وقد رُويَ أنّ “سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن”. وقال صلى الله عليه وسلم أيضًا: “الأَنَاة من الله والعجلة من الشّيطان فتبيَّنوا”، والتّبيُّن ضروري حتّى لا يقع الإنسان في المخاطرة والتّسرّع وعدم أخذ الحيطة والحذر.وإنّ من أهمّ ما يُنصَح به لمواجهة هذه الظّاهرة: القيام بحملات وطنية تحسيسية حول أخطار الحوادث بأنواعها، وذلك بهدف رفع درجة الوعي لدى المواطنين. مع توجيه الأئمة والمدرّسين ووسائل الإعلام المتنوّعة ممّا يساعد في عملية التّحسيس والتّوعية بمخاطر حوادث الطرقات النّاجمة عن كثير من التّصرّفات الطائشة المتهوّرة اللامبالية والّتي لا تنمّ عن تحضّر أو تمدّن كما لا تنمّ عن خُلُق ودين.وإنّ هدي الدّين الحنيف ومقتضيات التّمدُّن والتّحضُّر تتطابقان وتتضافران على ضرورة الانخراط الفعلي والعملي في حملات التّوعية والتّحسيس بمخاطر الحوادث، وذلك بتلافي كلّ أسبابها والتّعاون على اجتنابها كلّ من ناحيته وحسب مجهوده، لأنّ المخاطر والمصائب والفواجع عندما تحصل لا قدّر الله تعمّ ولا تخصّ ولا تستثني. أسأل الله عزّ وجلّ أن يقينا شرّ الحوادث والأضرار، وأن ينعم علينا بالأمن والإيمان.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات