بعد أن كتبتُ مقالًا مطوّلًا، حول ”إخراج زكاة الفطر بين التّعبُّد والتّعليل”، ورأى كثير من المتابعين أنّ المقال طويل، وإن كان قد استوعب إلى حدّ كبير أقوال المتقدّمين والمتأخّرين والمعاصرين، إلّا أنّه كان يحتاج إلى تلخيص وضبط بالنّسبة لعامة القرّاء. رأيتُ من استهزاء بعض أصحاب المدرسة الظاهرية الجُدد، قد ثاروا على بعض الاجتهادات الصّادرة عن علماء الأمّة من سلف وخلف من أقران الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز والإمام البخاري وغيرهم من أصحاب الفقه والحديث، بل لم يُعجبهم حتّى اختيار ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ولا ترجيحات ابن أبي شيبة والبخاري وابن حجر.فقلتُ: إذا كان هؤلاء ليسوا من أعلام الأمّة فمن؟!. والموضوع ببساطة لو أنّ هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية تبنّت هذا الاختيار منذ سنوات ما سمعنا هذا العويل ولا هذا التّهويل.ثمّ القاعدة المقرّرة عند أهل العدل والإنصاف من أرباب الصناعة الفقهية في مقام التّرجيحات: أنّ إعمال الدّليلين أولى من إهمالهما. أو الجمع أولى من الإهمال، وفي كليهما يكون الإعمال.تذكّرني تلك الحادثة في السّيرة النّبويّة عندما قال الصّادق المصدوق: ”لتُصلّين العصر إلّا في بني قُريضة”، فاختلف الأصحاب، في ذلك بين مَن فهم التّعجيل، فصلّى في الطريق، وبين مَن فهم ظاهر النّص وقرّروا الصّلاة إلّا في بني قريضة.فعلّق العلّامة ابن القيم رحمه الله في ”زاد المعاد”، أنّ مَن صلّوا في الطّريق فهم سلف أهل الرأي، ومَن صلّوا في بني قريضة هم سلف أهل الظّاهر... والنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، لم يعنّف أو ينكر على أحد.فإذا كانت قراءة النّصوص في زمن التّشريع لها هذه الفسحة، فلِمَ نحجر واسعًا؟ وعليه، أقول أنّ في المسألة واسع النّظر لكلّ مَن أعمل الأثر وأنفذ البصر بتحكيم المٱل المعتبر.إنّ النّظر المقاصدي يقتضي مراعاة حال الفقير في كلّ الأحوال من جهة تحقيق مصالحه. فإذا كان فوت أهل البلد هو الأنفع له، فيصبح هو الواجب شرعًا تقديمه له، وإذا كان النّقد هو الأنفع له في تحقيق حاجته المادية والمعنوية الّتي لا يمكن أن يعرفها إلّا عين المكلّف، فيَصبح تقديم النّقد هو المطلوب شرعًا.شُبَه ودفعهاالشُّبهة الأولى: لماذا لا تلتزمون بما نطق وعمل به الرّسول صلّى الله عليه وسلّم، وكلّ مَن خرج عنه خرج عن الهديّ النّبويّ؟الجواب: أنّنا نقول أنّ الأمر يرجع لاعتبارين: أوّلهما، أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، تعامل مع الموجود والرّائج في زمانه من أطعمة، من غير أن يتكلّف المفقود أو يزهد في الموجود، فما تيسّر في زمانه كان إخراج الزّكاة منه. وإذا فهم هذا الاعتبار، جاز لكلّ بلد أن يخرج من الطّعام أي ما كان في بلده هو المتوفّر، وإن لم يخرجه الرّسول ولا الصّحب الكرام. ويصبح الجمود على المذكور من قبيل التّكليف بما لا يطاق وإيقاع الأمّة في حرج وضيق، وهذا ما تأباه القواعد الشّرعية والمقاصد المرعية. ثانيهما، أنّ التّعامل بالنقود لم يكن رائجًا في زمانهم، وكان قليلًا، خاصة إذا نظرنا إلى حقيقة العملة أنّها كانت إمّا دينار ذهبي أو درهم فضي، وهذه المعادن الثمينة فضلًا على أنّها عملة، هي تحمل قيمة في حدّ ذاتها، وكانت قليلة في زمن التّشريع، ولهذا كانوا يلجأون إلى عملية المقايضة (التّبادل) بين السّلع في زمانهم. وهذا ظاهر منقول ومشهود. وعليه، كان اللّجوء إلى قوت أهل البلد هو الأيسر لكلّ مكلّف.الشُّبهة الثانية: أنّ الأئمة الثلاثة ما عدا الإمام أبي حنيفة، كلّهم يقولون بإخراجها طعامًا، وهذا قول الجمهور الّذي لا يجوز مخالفته. والجواب: يمكن إرجاع الشّبهة إلى ثلاث اعتبارات: أوّلًا، أنّ علماء الأمّة قرّروا أنّه من قواعد الشّرع ”لا إنكار في مختلف فيه”، وهذه مسألة خلافية القرار الجميع. ثانيًا، أنّ العصمة في المسمّى الإجماع، ولا إجماع في المسألة، وقول الجمهور مهما يكن لا يرقى إلى مرتبة الإجماع القطعي الّذي لا يجوز مخالفته. ثالثًا، أنّ اتّباع الأئمة الثلاثة، وجدنا عند أشهر تلامذتهم ومحقّقيهم يقولون بقول السّادة الأحناف، فضلًا عن النّقل الثّابت عن سيّدنا عمر بن عبد العزيز. والعصمة ليست في اجتهاداتهم، فقول العالم يحتجّ له وقول الشّارع يحتجّ به، وبون شاسع بين يحتجّ به ويحتجّ له.الشُّبهة الثالثة: دعوى عدم التّعليل لأنّها مسألة تعبّدية. وهذه المسألة في حدّ ذاتها خلافية، حيث أنّ السّادة الأحناف وسّعوا على أنفسهم من البداية، وقرّروا قاعدة ”كلّ نصّ كان معقول المعنى جاز تعليله، سواء كان في العبادات أم في المعاملات”. وهذا المنحى نحاه الجمهور وإن صرّح بخلافه، بقولهم: إنّ التّعبُّدات لا تعلّل والأصل فيها التّوقف. ولكن هذا في الجملة، وإلّا وجدناهم علّلوا كثيرًا من الأحكام التّعبُّدية وألحقوا بها صورًا، سواء مسائل في الطّهارة، أو السّهو في الصّلاة، أو في الصّيام أو في الحجّ، وألحق بذلك أحكام الزّكاة في بعض صوره، أو ما يتعلّق بالكفّارات الّتي لا شكّ أنّها من محض التّعبُّد رغم ذلك وجدت فيها سَعَة.الشُّبهة الرابعة: أنّنا لسنا أعلم من الله ورسوله بمصلحة الفقير!. وهذا صحيح ليس هناك أعلم بالخلق مثل من خلقهم، غير أنّنا وجدنا الشّارع الحكيم يراعي عند كلّ حكم مقصده، خاصة إذا تعلّق الأمر بمصلحة المكلّفين، فإنّ الوقوف على حرفية النّص وعين إهدار مقصود الشّارع من تشريع هذه الزّكاة، الّتي قال فيها ”اغْنُوهُم عن المسألة في هذا اليوم”. وكيف يتم الإغناء بكيس دقيق يعطى له ثمنه 80دج للكلغ الواحد، وهو يبيعه ليتحصّل على المال بثمن 30 دج أو 40 دج الّذي هو أنفع له لما يحتاجه، فننظر كم يخسر في الكلغ من دينار، لأنّه يحتاج إلى مال من أجل دواء أو كهرباء أو إيجار... ولقد رأيت بأمّ عيني في المملكة العربية السعودية أكوام الأرز مرمية في الشّوارع أو أمام المحلات التجارية، لأنّ الفقراء أرادوا بيعها بنصف ثمنها، فأين عدالة التّشريع ومصلحة الفقير؟جوهر الكلاملقد أصدرت وزارة الشّؤون الدّينية فتواها وقرارها، ونحن لا نعترض عليه، فهم أدرى بالمبرّرات والمعطيات الّتي معهم وعندهم، ولعلّنا لم نطّلع عليها. فقرّروا أنّ نصاب زكاة الفطر لهذه السنة يقدّر بـ 120دج.فهل هذا التّقدير يتناسب مع قوت البلد الرّائج، إذا اعتبرنا نحن في الجزائر الطعام الرّائج: الكسكس أو التمر..؟ فلننظر إلى مصلحة الفقير ونخرج له من التّمر الّذي متوسط الكلغ من نوعه سعره: 500دج للكلغ الواحد، فيصبح زكاة فطره 1800غ، أي سعر الزّكاة بالقيمة المالية: 950دج، أي ما يعادل زكاة ستة (06) أفراد من أسرة بقيمة 120دج.ثمّ ما المقصود بقوت أهل البلد، هل هو سميد أم الكسكس؟ مع مراعاة الزّيادة في ثمنه في السّوق رغم دعم الدولة له!!!نظرة إلى الواقع العالمي في مقدار الإخراجلا بدّ من استحضار هذه المعطيات الّتي تؤكّد أنّ قيمة زكاة الفطر في بلدنا جدّ متدنية مقارنة ببعض الدول المجاورة.الجزائر 120دج= 0,6 €فرنسا 8 €= 1600دجالإمارات (25 درهم) والسعودية (25 ريال) 6,25 €= 1250دجالمغرب 15درهم = 1,4€= 280دجقطر 15 ريال= 3,75€= 750دجتركيا 40 ليرة= 2,50€= 500دجملاحظة: تمّ اعتماد قيمة السّوق الموازية في تحويل هذه القيم إلى الدينار الجزائري باعتبارها القيمة الأكثر مصداقية عكس القيمة الرسمية الّتي تبقى قيمة إدارية بعيدة عن الواقع الاقتصادي.الخلاصةأرى أنّه من الإنصاف وبعد النّظر: أوّلًا، إعادة النّظر في التّقدير لقيمة زكاة الفطر، بناء على نوعية الطعام المعياري في التّقدير. ثانيا: ضبط الأطعمة الّتي يمكن إخراجها في بلدنا، مع مراعاة اختلاف المناطق في الرّائج من طعامها. ثالثا، ترك فسحة للمكلّفين أن يخرجوا بما يرونه في صالح الفقير، فلا إحراج للمزكّي، ولا منّة على الفقير، ولا قفز على حاجاته. رابعًا، شيء يدعو إلى الاستغراب، هو أنّ القدرة الشرائية بين العام الماضي وهذه السنة زادت، والمواد الغذائية زادت في السوق العالمية بشكل تصاعدي هيستيري، فكيف يكون نصاب زكاة الفطر العام الماضي 120دج ونفسه هذه السنة؟فلا أدري على أيّ معيار يتمّ تقدير القيمة، فإذا كانت على الدقيق، فإنّ الكلغ في سوق التّجزئة من 80دج إلى 90دج، بمعنى أنّ اثنين كلغ تساوي 160دج أو 180دج. هذا هو سعرها وتقديرها، فكيف تمّ تقدير: 120دج !!!ففي الأمر سعة، ومَن لم يطّلع على اختلاف الفقهاء لم يشمّ رائحة الفقه، ولو سكت مَن لا يعلم لسقط الخلاف. فقد علم كلّ أناس مشربهم، فاستَبِقوا الخيرات.* أستاذ الشّريعة والقانون بجامعة وهران
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات