ثبوت الهلال مسألة اجتهادية وعلى المرجعية أن تَثْبُتَ على خطّ

+ -

صرّح الحافظ ابن عبد البَرّ المالكي في كتاب “التّمهيد” أنّ مسألة ثبوت هلال رمضان خلافية وأنّ بعض العلماء قال باعتبار اختلاف المطالع، وبعضهم قال بعدم اعتباره، حيث قال: “إلى القول الأوّل أذهب؛ لأنّ فيه أثرًا مرفوعًا، وهو حديث حسَن تلزم به الحُجّةُ، وهو قول صاحبٍ كبير لا مخالفَ له من الصّحابة، وقول طائفة من التّابعين، ومع هذا: إنّ النّظر يدلّ عليه عندي”.ويشير العلّامة الحافظ ابن عبد البَرّ إلى حديث كريب، الّذي رواه مسلم، وأنّ أمّ الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشّام، قال: “فقدمتُ الشّام فقضيتُ حاجتها، واستهلّ عليَّ رمضان وأنا بالشّام، فرأيتُ الهلال ليلة الجمعة، ثمّ قدِمتُ المدينة في آخر الشّهر، فسألني عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما، ثمّ ذكر الهلال: فقال: متَى رأيتُم الهلال؟ فقلتُ: رأيناه ليلة الجمعة. فقال: أنتَ رأيتَه؟ فقلتُ: نعم، ورآه النّاس، وصاموا وصام معاوية. فقال: لكنَّا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتّى نُكمِل ثلاثين أو نراه. فقلتُ: أوَلَا نكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم”.وعليه، فإنّ في المسألة سعة، ولكن لا بدّ من مراعاة هذه الاعتبارات:أوّلًا: أنّ البقاء على الأصل هو الأسلم، عند الاختلاف في مدلولات الألفاظ في فهم النّصوص، واللّجوء إلى ظواهر النّصوص عاصم عند الاختلاف في قراءة النّصّ واستثماره.ثانيًا: أنّ القول في نفي الفارق بين الأقطار، وأنّ هذه أمّة واحدة مقصد نبيل، ولكن يراع فيها وحدة الخطّ الفلكي، مع عدم تباعد الأقطار، كما صرّح بذلك المالكية. قال الإمام الباجي: “إذا رأى أهل البصرة هلال رمضان، ثمّ بلغ ذلك أهلَ الكوفة والمدينة واليمن، فالّذي رواه ابن القاسم وابن وهب عن مالك في المجموعة: لزمهم الصّوم”.وذلك أنّ الشّمس والقمر وسائر الكواكب إذا طلعت على بلد واقع على أحد خطوط الطول -ممتدًّا من الشّمال إلى الجنوب- كانت مشرقة على جميع البلدان الواقعة على هذا الخطّ. وكذلك كلّ البلاد الواقعة غربي هذا الخطّ يكون الهلال ثابتًا عندها -مهما اختلفت المطالع-، وكلّما كانت البلاد أشدّ بُعدًا من جهة الغرب، كان الهلال أظهر.وعليه، لا بدّ من مراعاة هذه الخطوط الفلكية، لمَن أسلم عقله للحساب الفلكي، واطمأن له.ثالثًا: ضرورة وجود فلكيين ثقات ضمن لجنة رصد الأهلة، مع بذل الوسع بالقدر الّذي يبذله الفقيه عند استنباط الحكم. حيث جاء في بيان للمجلس الفقهي الأوروبي الّذي يتّخذ من العاصمة الإيرلندية دبلن مقرًا له إنّ ‘’الحسابات الفلكية الدقيقة بالنّسبة لهلال شهر رمضان لعام 1443هـ تؤكّد اقتران الهلال يوم الجمعة 29 شعبان 1443هـ/01 أفريل 2022م على السّاعة 06:25 بتوقيت غرينيتش، وعليه سيكون أوّل شهر رمضان المبارك يوم السبت 02 أفريل’’.وأوضح ذات البيان أنّ رؤية الهلال ستكون ممكنة بالتلسكوب في الجزء الغربي من إفريقيا وفي الأمريكتين”.خامسًا: يجب أن يكون هناك خطّ فقهي واضح وثابت غير مزاجي، يحافظ على نظام ونسق المذهب، مهما كان الاختيار في المسألة الاجتهادية. وهذا ما يسمّى عندنا بالجاريات، أو ما جرى عليه العمل.سادسًا: وكما قرّر العلماء أنّ: الاعتبار يورث الاعتذار، يجب أن  يكون الاختيار محرّرًا ومبرّرًا، خاصة عند الخروج عن الجادة، وممّا ألف من معهود أهل الإفتاء ببلدنا، وهذا ممّا يجعل النّفوس تسكن للاطمئنان، والعقول للإذعان.سابعًا: كلّما صدرت الفتوى من أهلها في محلّها، وارتضاها أهل الحلّ والعقد، فهي ملزمة لكلّ مَن هم تحت سلطانها.ثامنًا: يحرم مخالفة السّواد الأعظم لأهل البلد، إذا استقرّ على أحد الآراء، وهذا محافظة على وحدة الكلمة ووحدة الصفّ، ما دامت المسألة خلافية، وفيها سَعَة في اختيار أحد القولين، فما ارتضته الأمّة، فهو واجب الاتباع، وكلّ مشغب عليها يجب الأخذ على يده بقوّة السّلطان، لأنّ متعلّقها بأمر الأمّة، لا بأحكام الأفراد.الخلاصةعلى كلّ دولة أن تحسم أمرها من خلال مجتهديها، إمّا أن تأخذ بالرّؤية المطلقة، وإمّا بالحساب الفلكي، وهذا من خلال الاستعانة بعلماء فلك ثقات، علمًا ودينًا. ولا تلجأ إلى الحساب الفلكي إلّا إذا انعدمت الرّؤية البصرية، خاصة إذا كان الجوّ صحوًا.فالعبرة بالرّؤية البصرية ولو باستعمال التيلسكوب، لا بالحساب والتّقويم الفلكي، قولًا واحدًا، حتّى يحفظ على رسوم الشّريعة، في أميتها الّتي نخاطب النّاس بمعهودهم، دون تكلّف أو تعسّف، فيما قرّره علّامة “المقاصد” الإمام الشاطبي رحمه الله. لقوله صلّى الله عليه وسلّم: “صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته؛ فإن غُمِّي عليكم الشّهر، فعدُّوا ثلاثين”. هذا وبالله التّوفيق، وقد علم كلّ أناس مَشرَبَهُم.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات