+ -

 لقد صار (الفيس بوك واليوتيوب) خاصة وباقي وسائط التّواصل الاجتماعيّ عامّة، مرتعًا لكلّ من هبّ ودبّ، ومعرضًا لكلّ النّتوءات الفكرية والعاهات النّفسية، ومنبرًا يعتليه من شاء، متى شاء؛ ليقول ما يشاء دون حسيب ولا رقيب! بجوار ما فيها من فوائد ومحاسن، كالتّبر نجده في التّراب، والواحة الغنّاء وسط الصّحراء القاحلة! وهذا أمرٌ عاديّ نظرًا لطبيعة هذه الوسائط، والفكر القائمة عليه، وهو يمثّل من وجه آخر ضريبة (الحرية) (والمساواة) النّسبية التّي تتيحها هذه المواقع لمرتاديها، حيث يمكن لأيّ شخص أن يمتلك حسابًا ينشر فيه متى عنّ له ذلك، ما عنّ بباله في حدود السّياسات والضّوابط التّي تعتمدها الشرّكات العملاقة (الغامضة) المسيرة لها، دون نظر لجنسيته أو جنسه أو دينه أو مستواه أو تخصصه.. الخ.والحقّ أنّ ما يموج به الفيس بوك وأخواته هو صورة عمّا تموج به الحياة الواقعية، وما نقرأ وما نسمع وما نشاهد في الفيس بوك وأخواته ما هو إلّا صدى لِكلام النّاس وأفكارهم في حياتهم الطّبيعية. وعليه إذا صادفتنا أيّ فكرة غريبة - مهما بلغت غرابتها - أو مستهجنة -مهما بلغ استهجاننا لها- في هذه الفضاءات الافتراضية، فإنّما هي فكرة يتداولها النّاس همسًا أو جهرًا، كثيرًا أو قليلًا.وحين يجرف الفيس بوك وأخواته الأطفالَ الصّغار، (والمراهقين والمراهقات)، والفارغين والفارغات، والجاهلين والجاهلات، والمبتلين بالعاهات النّفسية، والعاهات الفكرية، وذوي الأغراض، وضحايا الشّبهات إلى الخوض في دين الله تعالى بغير علم، أو إثارة غبار الشّبهات جهلًا وغفلًا، أو طرح أفكار سخيفة أو أفكار برّاقة خدّاعة أو أفكار مُبهرجة لها أبعاد خطيرة.. الخ، حين يجرفهم إلى هذه الهاوية يكون الأمر عاديًّا، وإن وجب معالجته والاهتمام به، ولكن حين يشارك في هذا الغثاء (وهذه الجرائم) بعض من يظنّ فيهم الخير، ويُحسَبون في أهل الفضل، ويَحسِبون أنفسهم من أهل العلم والفكر والتّوجيه، وربّما التّجديد!، فهي الواقعة الّتي ما لها دافعة!إنّني قليل الزّيارة للفيس بوك وأخواته، قليل المشاركة فيه، وإنّما أطلّ فيه الطّلّة بعد الأخرى، وكثيرًا ما يثلج صدري ويبهج نفسي ما ينشره كثير من الأفاضل، من الأئمة والدّعاة والشباب وغيرهم، الّذين لهم صولات فيه وجولات، وكرّ وفرّ، بيد أنّي في كثير من الإطلالات أيضًا أُصدم بما يجبهني فيه من منشورات، فيتعكّر صفويّ ويضيق صدري. وهكذا هي الحياة عُسر ويُسر، وضيق ووُسع، وانقباض وانشراح!وإنْ تفهمّت بعض المنشورات ووجدت لها تفسيرًا، فبعضها الآخر لا أفهمه ولا أجد له تفسيرًا، ومن ذلك أنيّ التقيت مرّة بمنشور لإمام يستهجن التّذكير بالمناسبات الدّينية، ويستخفّ بالأئمة الكرام الّذي ذكّروا النّاس بمعجزة الإسراء والمعراج، بدعوى عدم إجماع العلماء على وقتها واختلافهم في تحديده، ويدعوهم لبعض المواضيع العلمية والواقعية!، الّتي لا أشكّ أنّ كثيرًا من الأئمة يتناولونها دوريًّا، ولا تعارض بين تناول هذه وتلك. وطبعًا صاحبنا معجبٌ بمنشوره ومنفوخٌ بإعجاب بعض (الفيسبوكيين) به! وهذا فعل شنيع منه، كونُه إمامًا! وإنّما أُوتي من جهله واغتراره بما يروّج! ولو تحقّق لعلم أنّ من مقاصد القرآن العظيم في ذكره للأحداث والأحكام الّتي لها أوقات محدّدة معلومة أن يبقى النّاس يذكرونها ويتدبّرونها في كلّ وقت، في وقتها المحدّد وفي غيره، كآيات الصّيام الّتي لا يقرأها غالب الأئمة إلاّ في رمضان، وما أنزلت في القرآن الحكيم إلّا ليقرأها النّاس في كلّ الشّهور والأيّام فيتفيؤ أنسامَ رمضان طول العام وتهفو له نفوسهم، ويكون ذلك مدعاة لهم للتّطوع بالصّيام، لعلّهم يتّقون.وهكذا الإسراء والمعراج ذكرت في سورتين كريمتين في سورة الإسراء وسورة النّجم، حتّى لا ينسى المسلمون هذه الحادثة العظيمة وأبعادها الجليلة الجسيمة، ولكنّ بعض الأئمة لا يعلمون! ثمّ أين هو وأمثاله من قول الله تبارك وتعالى: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ}، وهو بعمومه يشمل كلّ المناسبات والأحداث الدّينية والدّنيوية العظيمة، ولكن بعض الأئمة لا يفقهون.إنّ الخطأ خطأٌ مهما كان قائله، والأئمة والعلماء والدّعاة غير معصومين، ولا يخلو أحد من خطأ وغلط، وهذا ما يوجب علينا التّناصح والتّواصي بالحقّ، وإهداء عيوب بعضنا لبعض بأدب ورحمة، قصدًا للإصلاح والخير، فحين نخوض في هذا الموضوع لا ننقص من مكانة أحد ولا نقصد شخصًا بعينه، وإنّما نشخّص ظاهرة، وننبّه لها، عسى ولعلّ ندفع فسادًا أو نجلب صلاحًا، وندلّ على خير ونحذر من شرّ، نصحًا للمسلمين وذبًّا عن دين الله تعالى.ولهذا لا أجد غضاضة أنّ أقرّ أنّ بعض الأئمة المزاولون للخطابة لا يصلحون لارتقاء المنابر؛ لعدم تأهّلهم العلمي أو النّفسي أو الفكري أو الاجتماعيّ، أو الثّقافي.. بل إنّ من الأئمة من يصدق فيه وصف الرّويبضة، الّذين وصفهم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بـ: «السَّفِيهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّة» أو «الْفُوَيْسِقُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ» أو «الرَّجُلُ التَّافِهُ فِي أَمْرِ الْعَامَّة» رواه أحمد وغيره. ولا ضير على مكانة الإمام وقدسية رسالته من وجود هؤلاء، ذلك أنّ هذا الأمر موجود في كلّ الوظائف والمهن والمجالات، فلكلّ مجال رويبضتُه.. إذ أنّ بعض الأطباء لا يصلح أن يدخلوا المستشفيات إلّا مرضى! وبعض القضاة والمحامين لا يصلح أن يدخلوا المحاكم إلّا ليحوّلوا إلى السّجون!، وبعض المعلّمين والأساتذة لا يصلح أن يدخلوا المدارسَ والجامعات إلّا ليُحالوا على المجالس التّأديبية!... الخ. وعلى هذا فمن الظّلم للأئمة تعميم الحكم عليهم لوجود عيّنات من الرّويبضة في صفوفهم، ومن ظلم الأئمة لوظيفتهم ورسالتهم انجرارهم وراء أهواء الأكثرية، والانخداع بالأمور الشّائعة والذّائعة، وإرسال الكلام على عواهنه دون تثبت ولا تحقيق، ويظلمون أكثر حين يجرون وراء الشّهرة في الفيس بوك وأخواته، ويسقطون في شراك لعبته!* إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات