+ -

 إن القراءة والكتاب من أهم وسائل المعرفة على الإطلاق، وركيزة حضاريَّة مهمّة تسهم في بلورة شخصيّة الفرد والمجتمع على حد سواء. فالكتاب عنوان لشتى أنواع المعارف وعليه يتوقّف رقي المجتمعات، وهو عنوان لإبداع المبدعين وتنافسهم في شتى العلوم والمعارف، لذلك فإنّ له فوائد عظيمة، وسبلا متنوّعة للاهتمام به.جاءت الحضارة الإسلاميّة لتولي الكتاب رعايةً خاصّةً ومن بين الخلفاء المسلمين الّذي اهتمّوا بالكتاب وما يحويه من علوم الخليفة العبّاسيّ المأمون الّذي جعل لكلّ من يقوم بترجمة كتاب أجنبيّ وزنه ذهبًا، ولقد أسّس المأمون دارًا سمّاها “بيت الحكمة” كانت أشبه بالمكتبة العامّة والمجمع العلميّ الّذي يلتقي فيه العلماء والفلاسفة ويتناقشون ويتدارسون ويتحاورون فيما بينهم.كان السّلف الصّالح يتفانون في حبّ الكتب ومجالستها؛ لما فيها من العلم والفائدة، وقد وضعوا في كتب آداب طالب العلم فصولًا وأبوابًا في أدب طالب العلم مع كتابه، وكيفية النّسخ، والحثّ على الجيّد من الورق، وصفة القلم الّذي يكتب به، والحبر ولونه.والكتاب هو وسيلة التّعليم والتّعلم، فالإنسان حينما يريد أن يدرس ويتعلّم في مجال من مجالات الحياة المتنوّعة والكثيرة فإنّه يستخدم الكتاب ويطّلع على ما فيه من علوم ومعارف، وكذلك العالم والمدرّس يعتمد على الكتاب في تدريس الطّلبة وتعليمهم المناهج المختلفة، فالكتاب هو محور العمليّة التّعليميّة والتّربويّة وأداتها الرّئيسيّة.وإنّ الاهتمام بالكتاب بات من مقوّمات الهُويّة الوطنيّة للأمم والشّعوب؛ فالحياة بكلّ مظاهرها تكون في ظلام متى عُزل الكتاب عنها، فالاهتمام بالكتاب يقودنا إلى كلّ ما يتعلّق به، مثل الكتابة، والقراءة، والعلم والمعرفة، إذ جميعها عناصر لازمة وحلقات متّصلة بالكتاب، والاهتمام بالكتاب هو عنوان لقيم حضاريّة تعتز بها الأمم وتفاخر، وهو عنوان لتنوّع العلوم وتشابكها، وللإبداع، والنّبوغ، والتّفوّق..والكتاب هو المعلّم الأوّل للبشريّة وفوائده تكاد لا تحصى، فهو ثقافة وتوجيه، معرفة وتعليم، والمجتمع مسؤول عن تدريب الأبناء على صحبة الكتاب، لأنّه غذاء للعقل، وتجهيز مكتبة زاخرة بالكتب المفيدة في كلّ منزل هي النّواة الحقيقية لخلق جيل قارئ يحبّ الاستزادة من الكتب حين نضعها بين يديه، لتكون له مرجعًا للبحث والدّراسة والتّحصيل، نعودهم منذ نعومة أظفارهم المحافظة على الكتاب، وإعادته لمكانه المخصّص، لأنّه المرشد الحاذق الّذي يُعينهم على حرية التّفكير، فيترجم أهداف طريق حياتهم بالبحث العلمي.يصف أبو عمرو الجاحظ الكتاب فيقول: ‘الكتاب وعاء مُلئ علمًا، وظرفٌ حَسُنَ ظُرفًا، وروضة تقلب في حِجْر، ينطق عن الموتى، ويترجم كلام الأحياء، ولا أعلم جارًا أبرّ، ولا رفيقًا أطوع، ولا معلمًا أخضع، ولا صاحبًا أظهر كفاية وأقلّ إملالًا وإبرامًا، ولا أقلّ غيبةً، ولا أبعد من مراء، ولا أزهد في جدال، ولا شجرة أطول عمرًا، ولا أجمع أمرًا، ولا أطيب ثمرة، ولا أقرب مجتني، ولا أسرع إدراكًا في كلّ أوان -من كتاب، ولا أعلم نتاجًا في حداثة سنّه، وقرب ميلاده، ورخص ثمنه، وإمكان وجوده، يجمع من التّدابير الحسنة، والعلوم الغريبة، ومن آثار العقول الصّحيحة، ومحمود الأخبار اللّطيفة، ومن الحكم الرّقيقة، ومن المذاهب القديمة، والتّجارب الحكيمة، والأخبار عن القرون الماضية، والأمثال السّائرة، والأمم البائدة- ما يجمع الكتاب’.وكان ابن الجوزي يقول: ‘إذا وجدتُ كتابًا جديدًا فكأنّي وقعتُ على كنز’. وقال الأصمعي لرجل: ‘ألَا أدلّك على بستان تكون منه في أكمل روضة، وميّت يخبرك عن المتقدمين، ويذكّرك إذا نسيت، ويؤنسك إذا استوحشت، ويكفّ عنك إذا سئمت؟ قال: نعم، قال: عليك بالكتاب، فلا يخلو كتاب من فائدة تنفع من يعمل بها أو تحذر من أمر ما كما إنها تعدّ خير وأجمل جليس وأحسنه وأكرمه وأنفعه للفرد وللمجتمع’.وقال أحد العقلاء: ‘صحبتُ النّاس فمَلّوني ومللتهم، وصحبتُ الكتاب فما مللته ولا ملّني’. وهذا يذكّرنا بقول الشّاعر: وخير جليس في الزّمان كتاب  تسلو به إن خانك الأصحاب. وقال آخر: أعزّ مكان في الدّنيا سرج سابح وخير جليس في الأنام كتاب.وكان بعض السّلف يستعين بالكتاب على الغربة ووحشتها، فقال مودّعًا صديقًا له: ‘استعن على وحشة الغربة بقراءة الكتب، فإنّها ألسنٌ ناطقة، وعيون رامقة’.وهكذا كانت الكتب عند سلفنا الصّالح؛ أنيسهم في الوحدة والغربة، وزادهم في السّفر، وجليسهم في الخلوات، حتّى أخرجوا لنا حضارة يانعة مثمرة، جنى ثمارها القاصي والداني، ولا زالت تفيض على العالم من ثمارها، رغم ما اعترى خلفهم من تفريط وكسل وضعف وهوان.لكن مع الأسف أهمل الآباء دور الكتاب وأهمّيته في حياة أبنائهم، فاهتمّوا بتسلية الأبناء وترفيههم وإلباسهم أحدث الملابس وشراء أحدث الألعاب الّتي تُنمّي النّزعة العدوانية لديهم وتبعدهم عن حبّ المطالعة ومصاحبة الكتب وإهمال القراءة والاطلاع، فالأسرة هي المحرّك الأساسي والدّافع لغرس حبّ القراءة وتقديسها في نفوس الأبناء منذ الصغر.إنّ للأسرة دورا كبيرا في تقدّم المجتمع في شتى المجالات في مدرسة الأجيال الأولى، ولابدّ من البدء في إعادة إحياء القراءة في منازلنا ومجتمعاتنا العربية كي نلحق بركب العلم والعلماء.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات