لقيني أحد الشباب أمام مسجد “الأمّة” بسانت أوجن، فقال لي: ما رأيك لو أنّ الأموال الّتي أنفقتموها على بناء المسجد قد أنفقتموها على بناء مستشفى للأمّة؟ ألَا يكون ذلك أجدى وأصلح؟ فقلت له: ما أكثر مَن يقول مثل هذا القول، ويفكّر مثل هذا التّفكير، ويجعل بيوت الله ثمنًا لأغراض الدّنيا وأعراض الحياة! ثمّ من أين لك أنّ المسجد غير المستشفى؟ أأنت على علم بالحكمة الّتي يؤسّس لها المسجد في الإسلام؟ أم أنّك دخلت المسجد فوجدته شيئًا آخر غير المستشفى؟ أم أنّك تحكم على ما لا تعرف؟ولكن على رسلك - أيّها القارئ الكريم - فإنّ صاحبنا ممّن تعلّموا في مدارس غير إسلامية، فحسبوا أنّ المسجد مثل الكنيسة مقصورٌ على مَن نفض يديه من دنياه، وأقبل بكليته على أخراه، كهؤلاء الرّهبان، الّذين لبسوا المُسوح وحملوا الصُّلبان، ولزموا الصّوامع، وقطعوا صلتهم بدنيا الإنسان.فإليك - أيّها الشّاب - وإلى أمثالك من الشّبان، أوجه هذا البيان:إنّ المسجد في الإسلام، لهو (المستشفى) – بعينه - لسائر الأمراض والأسقام، وإنّما الفرق بينهما أنّ (المسجد) يعالج القلوب والأرواح، بينما المستشفى يحصر عنايته في علاج الأجسام، وبينما يرى (المستشفى) أنّ العقل السّليم في الجسم السّليم، يقول (المسجد): «أَلَا وإنّ في الجسد مُضغةً إذا صَلُحَت صَلَح الجسدُ كلُّه، وإذا فسدت فَسَدَ الجسدُ كلُّه، أَلَا وهي القلب» الحديث.وإنّما الإنسان بقلب هو روحه، وما الجسم إلّا القشر الّذي يحفظ اللّباب؛ ولذا قيل:أقبل على النّفس فاستكمل فضائلها فأنت بالرّوح لا بالجسم إنسانوليسمعني هذا أنّ الإسلام يهمّ لشأن الجسم، ولا يقيم وزنًا لغير الرّوح والقلب، وإنّما المراد أنّ في تهذيب الرّوح وترقيتها وصحّة القلب وسلامته، صحّةَ الجسم وسلامتَه، فإنّ القلب هو القائد لهذه السّفينة الّتي هي البدن، وبهذا القائد تسلم أو تعطب، وتنجو أو تغرق، فمثلًا: أكثر ما يكون داء البدن من الإفراط في الأكل والشّرب كما قال ابنُ الرّوميّ:فإنّ الدّاء أكثر ما تراه يكون من الطّعام أو الشّرابولكن الأدوية التّي يشير بها الإسلام، ويجدها المرضى في (مستشفى الإسلام) من مثل قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [سورة الأعراف:31]، ومثل قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ما ملأ ابن آدم وعاءً شرًّا من بطن، بحسب ابن آدم لُقيمات يُقِمنَ صُلبَه، فإن كان لابدّ فاعلًا فثُلث لطعامه، وثُلث لشرابه، وثُلث لنَفَسِه»، مثل هذا الدّواء كفيل بوقاية الأجسام من الآفات والأسقام، إذا كان القائد –الّذي هو القلب- يقِظًا واعيًّا لم تحجب بصيرته الذّنوب والآثام.إذن، ليس المسجد إلّا المستشفى العام، لمرضى القلوب والأجسام، هذا ما يلمسه كلُّ من يعرف الإسلام، ويتلو قوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [سورة الإسراء:82]، وإنّما المشكلة هي مشكلة الّذين لا يعرفون الإسلام، أو تلقّوا عن الإسلام ما ليس من الإسلام، ولاسِيما إذا تلقّوه منذ النّشأة الأولى، وفي عهد الطّفولة كما عمّت به البلوى في عهدنا الأخير ـ وكما تحدّث عنه الشّاعر بقوله:أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلبًا خاليًّا، فتمكّناهذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ المساجد لم تعد تقوم بالدّور الهام، الّذي كانت تقوم به في العهود الزّاهرة للإسلام؛ لأنّ الدّعاة قد سرى إليهم ما أصاب المجتمع من عِلل وآفات، بمعنى أنّ الأطباء أصبحوا –هم الآخرون- مرضى، وويْح الأمّة إذا مرض أطباؤها، والأطباء المرضى هنا هم العلماء الخادعون المخدوعون، الّذين يقولون ما لا يفعلون ويأمرون بما لا يأتمرون، وينهون عمّا لا ينتهون:وغير تقيٍّ يأمر النّاسب التُّقى طبيبٌ يداوي النّاس وهو عليلوتلك هي الإساءة المزدوجة، كما قال أبو العلاء:إذا فعل الفتى ما عنه ينهى فمن جهتين - لا جهةٍ - أَسَاءَإنّ الأمّة قد استجابت لله، وهرعت إلى بيوت الله على كثرة ما سمعت من أصوات الدّاعين إلى الله، ولكنّها اصطدمت بالكارثة القاضية، وهي مرض الدّاعية، ونخشى أن تردّها الصّدمة إلى الوراء، وداء النّكسة أخطر داء، ولو سبقت هذه المرحلة، مرحلة تخريج الأطباء لكان أجدى على المرضى، وأدعى لتأدية المسجد لدوره الفعّال وغرضه الأسمى، فإنّ المسجد وحده بدون دعاة ثقات، لا يرجى منه أن يؤدّي وظيفته في علاج القلوب كما لا يُرجى من المستشفى أن يؤدّي وظيفته في علاج الأجسام بدون أُسَاةٌ [أطباء] ثقات.إنّ رسالة المسجد – إذن - أعظم رسالة، وإنّ عظماء الإسلام الأوّلين وقادة الإسلام الفاتحين وحكماء الإسلام الرّوحيين، إنّما تخرّجوا من المسجد، وحملوا أشعة النّور إلى سائر جهات المعمور من المسجد، وليسمعن ىهذا أنّ جدران المسجد أو سواريه هي الّتي تمدّ أقاصي المعمور، بأشعة النّور، بل إنّ أطباء القلوب، الصّحاح القلوب، هم مصدر النّور إلى القلوب، “ولا يصلح آخر هذه الأمّة إلّا بما صلُح به أوّلها”.فيا أيّها الشّبان المتنكّرون للمسجد، ثِقوا بأنّكم لستُم على شيء ما دمتُم أعداءً للمسجد، ولا يفيدكم كلّما حصلتم عليه من علم إذا كنتم تجهلون قيمة المسجد، وإذا كنتم تجدون دواءَ أبدانكم خارج المسجد، فإنّكم لا تجدون دواء قلوبكم إلّا داخل المسجد، ولا تحسبوا أنّكم من المسلمين، وأنتم لا تضمّكم صفوف المسلمين في المسجد. فهَلُمُّوا أيّها الشّبان إلى المسجد!
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات