التعليم.. وظيفة الأنبياء وطريق الارتقاء

+ -

 إن من رحمة الله بخلقه أن أكرمهم بإرسال الرّسل وبعثة الأنبياء هداة مهديين، يردّون البشرية إلى الصّراط المستقيم إذا انحرفت ويعلّمونها إذا جهلت ويذكّرونها إذا غفلت ويحيونها بإذن ربّهم إذا ماتت. وقد كان ختامَهم كما هو معلوم سيّدُنا محمّد صلى الله عليه وسلم، الّذي أرسله الله على حين فترة من الرّسل، فأنقذ البشرية من براثين الجاهلية، واستخلصها من حمأة الجهل والأمية، وأسّس لحضارة لم تعرف البشرية مثيلًا لها، هداية ورحمة للعالمين مسلمهم وكافرهم على السّواء.وإذا نظرنا إلى سيرة النّبيّ الكريم عليه السّلام علمنا علمَ اليقين أنّ الوسيلة الأساسية الّتي نقل بها النّاس من الكفر إلى الإيمان، ومن الشّرك إلى التّوحيد، ومن الظّلمات إلى النّور، ومن الجاهليّة إلى الحضارة، هي التّعليم. نعم التّعليم، وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما روته عنه عائشة الصديقة رضي الله عنها: «إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّتًا وَلاَ مُتَعَنِّتًا، وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا» رواه مسلم. وهذا ما أكّده القرآن الكريم، حيث نجد الله عزّ وجلّ يحصر وظائف الرّسول الكريم في ثلاث وظائف رئيسة: تلاوة آيات الله، وتزكية الأنفس، وتعليم الكتاب والحكمة، وكرّر ذلك في غير ما آية، فقال جلّ في علاه: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، وقال جلّ جلاله: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}، وقال جلّ شأنه: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}، وقال أيضًا: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}. ولا يقولنّ قائل: إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم إنّما علّم النّاس أمور دينهم! لأنّ هذا قصور في الفهم، ذلك أنّ الرّسول الكريم عليه السّلام إنّما اقتصر على تعليم الدّين؛ لأنّ عقول البشر قاصرة عن معرفة عالم الغيب، ولا سبيل لها إلى ذلك إلّا من طريق الوحي، وهذه مهمّة الرّسل الأولى، أقصد التّبليغ عن الله عزّ وجل، فتولّاها النّبيّ عليه السّلام، حتّى يشتغل النّاس بتحصيل العلوم الأخرى الّتي تنفعهم في دنياهم ودينهم، والعلم بالله تبارك وتعالى هو أعظم علم في الوجود، وهو أعظم من العلم بمخلوقاته؛ ولهذا تولّاه أعظم البشر. وأيضًا لأنّ العلم ووجوب طلبه من الدّين الّذي جاء به الرّسول صلى الله عليه وسلم، فقد حثّ عليه ورغّب فيه وأوجبه، وإن لم يشتغل هو به صلّى الله عليه وسلّم.وكذلك لأنّ علم الهداية هو أهمّ العلوم على الإطلاق؛ ذلك أنّ البشر إذا توسّعوا في العلم من غير هداية ربّانية تهديه وتضبطه أفسدوا أكثر ممّا يصلحون، كما هو معيش في زمننا هذا حيث بلغ الانفجار المعرفي والرُقيّ العلمي مبلغًا، ولكن البشرية تعيش الويلات على كافة الصُّعُد، وتعاني أزمات خطيرة تعصف باستقرارها وتهدّد وجودها، وهي من نتائج التّطوّر العلميّ بلا ريب، كمشاكل التلوث ومشاكل أسلحة الدّمار الشامل... الخ، ومن هذا نفهم لماذا كانت أوّل آية منزّلة من القرآن العظيم: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}، فهي القراءة باسم الله وليست أيّ قراءة، وهو العلم الخاضع لهداية الله وليس أيّ علم.وفي هذا السّياق، يقول العلّامة عبد الكريم الخطيب في تفسيره تعليقًا على قوله تعالى {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}: “وفي هذا دعوة للعرب وللمؤمنين بهذا الدّين، أن يتعلّموا للكتاب والحكمة، وذلك بمُدارسة كتاب الله، إذ كان هو الكتاب الجامع لكلّ ما في الكتب، من سماوية وغير سماوية، فمن جعل همّه له، ووجّه عقله وقلبه إليه، أصاب العلم الجامع، والحكمة المشرقة، وهذا من شأنه أن يجعل من أمّة الإسلام -لو أنّهم استجابوا لدعوة الله هذه- موطن العلم، ومعدن الحكمة، وأن تكون لهم أستاذية الإنسانية في العلم وفى الحكمة”.وعليه فإنّ مستقبلنا هو رهن بالتّعليم عندنا وكيف يكون، فالتّعليم الجيّد يعني مستقبل واعد، والتّعليم السّيئ يعني مستقبل كاسد!. ولا يمكن لغير التّعليم الممتاز أن يغيّر إيجابيًا البنية الشّخصية للأجيال القادمة، والبُنية الثقافية لمجتمعاتنا. ولا يمكن للتّعليم العالي المستوى أن يحقّق شيئًا إذا لم يكن موجّهًا أخلاقيًّا بما يقويّ الشّعور بالانتماء للأمّة، ويقوّي الاعتزاز بالهُوية والتّاريخ؛ ولهذا كان من وظائف الأنبياء والرّسل الرئيسة مع تلاوة الآيات وتعليم الكتاب والحكمة: التّزكية، تزكية الأنفس بالإيمان والطّاعة والأخلاق، وتنمية نوازع الخير فيها، قال الأستاذ الإمام محمد عبده - عليه شآبيب الرّحمة: “علم إبراهيم وإسماعيل - عليهما السّلام - [في دعائهما: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}” أنّ تعليم الكتاب والحكمة لا يكفي في إصلاح الأمم وإسعادها، بل لا بدّ أن يقرن التّعليم بالتّربية على الفضائل، والحمل على الأعمال الصّالحة بحسن الأسوة والسّياسة، فقال: {وَيُزَكِّيهِمْ} أي يُطهّر نفوسهم من الأخلاق الذّميمة، وينزع منها تلك العادات الرّديئة، ويُعَوِّدها الأعمال الحسنة التّي تطبع في النّفوس ملكات الخير، ويبغض إليها القبيحة الّتي تغريها بالشّرّ”.وعليه، فإنّ أيّ محاولة لإصلاح التّعليم من غير مراعاة هذا الأمر مآله إلى فساد وإفساد، ولن يكون إلّا هدرًا للوقت والمال، وتضحية بأجيال من أبنائنا الّذين هم ثروتنا الحقيقية، وحسن تعليمهم هو الاستثمار المضمون.إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات