+ -

 إن الحرب غير المتكافئة المشتعلة، هذه الأيام، بين روسيا وأوكرانيا تهدد السلام العالمي، وتأثيراتها وارتداداتها ستكون وخيمة على العالم من النواحي السياسية والاقتصادية والأمنية.. وإن سنة التدافع بين القوى العظمى هي سنّة كونية، قال تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ الله النَّاسَ بَعْضَهُمْ ببَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ}، وهي سنّة لإعادة الاتزان بين البشرية حتّى لا يعمّ الفساد في الأرض ويخرب العمران وتفسد الحياة، لكن من المهمّ أن تستغلّ دول شعوب المنطقة العربية فرصة التّدافع لاستثمارها في صيانة عمرانها ولتقليل مخاطر وآثار الحروب ودمارها على البشرية.والخشية كلّ الخشية أن تعيد أمريكا كذبة الجهاد ضدّ روسيا كما فعلت أيّام أفغانستان والبوسنة والهرسك، ونرى خطبًا حماسية وجمعًا للأموال من أجل تجييش جديد للمجاهدين المسلمين للذهاب إلى أوكرانيا،..وقد أفتى علماء الشّريعة الموثوق بهم أنّه لا يجوز الذهاب لأوكرانيا للقتال ضدّ الروس، فهي حرب بين طائفتين من الكفار لا شأن للمسلمين بها، وهذا ما يجب التّنبيه إليه، فهي حرب بين طائفتين من الكفار، وليس للمسلم أن يقاتل مع أحد الطرفين، قال شيخ الإسلام ابن تيمية عمّن يقاتل مع التتار ضدّ کافرین آخرين: ”لا يقاتل معهم غير مكره إلّا فاسق، أو مبتدع، أو زنديق..”.هذا هو الموقف الشّرعي، أمّا التحليلات نتركها للمحلّلين وللسياسيين يخوضون فيها ويقولون ويزيدون كما يشاؤون، ولن نترك إخواننا في أيّ مكان لمجرّد أنّ الغرب أو الشرق سيستفيد من نصرتنا لهم، ولن يهمّنا ذلك، فنحن نتّبع الموقف الشّرعي والدّليل الشّرعي ولا يهمّنا ما سيقول عنّا الأمريكان وغيرهم.وقد قصّ الله تعالى علينا كيف أنّ أكبر قوّتين کافرتين في العهد النّبويّ عندما كانت رحى الحرب دائرة بينهما واشتدّت معاركهما كان يرقبهما عن بعد فريقان؛ فریق مسلم وفريق كافر، وكلاهما يتمنّى غلبة طرف من الطرفين، أمّا المسلمون فيتمنّون غلبة الروم لكونهم أهل كتاب، وأمّا مشرکو قريش فيتمنّون غلبة الفرس لأنّهم وثنيون مثلهم. قال الله عزّ وجلّ: {آلم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} الروم:1-4.الإسلام هو دين التّسامح والمحبّة والسّلام، والسّلام مبدأ من المبادئ الّتي عمّق الإسلام جذورها في نفوس المسلمين، وأصبحت جزءًا من كيانهم، وهو غاية الإسلام في الأرض.. فالإسلام والسّلام يجتمعان في توفير السّكينة والطمأنينة، ولا غرابة في أنّ كلمة الإسلام تجمع نفس حروف السّلم والسّلام، وذلك يعكس تناسب المبدأ والمنهج والحكم والموضوع، وقد جعل الله السّلام تحيّة المسلم، بحيث لا ينبغي أن يتكلّم الإنسان المسلم مع آخر قبل أن يبدأ بكلمة السّلام.وممّا لا شكّ فيه أنّ الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم جاء سلامًا ورحمةً للبشرية ولإنقاذها وإخراجها من الظلمات إلى النّور حتّى يصل النّاس جميعًا إلى أعلى مراتب الأخلاق الإنسانية في كلّ تعاملاتهم في الحياة، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}.فالسّلام يشمل أُمور النّاس في جميع مناحي الحياة ويشمل الأفراد والمجتمعات والشعوب والقبائل، فإن وجد السّلام انتفت الحروب والضغائن بين النّاس، وعمّت الرّاحة والطمأنينة والحرّية والمحبّة والمودّة بين الشعوب.وفي القرآن الكريم والسّنّة النّبويّة الشّريفة عدّة قواعد وأحكام ينبني عليها مفهوم السّلام، ممّا يشكّل للمسلمين قانونًا دوليًا يسيرون عليه، وهذه القوانين والشروط الواجب توفّرها حتّى يتحقّق السّلام تظهر في المساواة بين الشّعوب بعضها البعض، فالإسلام يُقرِّر أنّ النّاس، بغضّ النّظر عن اختلاف معتقداتهم وألوانهم وألسنتهم ينتمون إلى أصلٍ واحدٍ، فهم إخوة في الإنسانية، ومنه قول النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: ”كُلُّكم لآدم، وآدم من ترابٍ، لا فضلَ لعربيٍّ على أعجَمِيٍّ إلّا بالتّقوى». كما أنّ الوفاء بالعهود، ومنع العدوان، وإيثار السّلم على الحرب إلّا للضّرورة وإقامة العدل والإنصاف، ودفع الظّلم، من القواعد الأساسية لتحقيق السّلام بين الشّعوب والمجتمعات، فلا يعتدي أحدٌ على حقّ أحدٍ، ولا يظلم أحدٌ أحدًا.فالسّلام ضرورة حضارية طرحها الإسلام منذ قرون عديدة من الزّمن باعتباره ضرورة لكلّ مناحي الحياة البشرية ابتداء من الفرد وانتهاءً بالعالم أجمع فبه يتأسّس ويتطوّر المجتمع. قال تعالى في محكم التّنزيل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}.والسّلام أمنية غالية ورغبة أكيدة، تتطلّع إليه البشرية في تلهّف وشوق، ولا يدرك قيمة السّلم الحقيقية إلّا من عاش الحرب واصطلى بنارها، ورأى وسائل الدّمار والخراب، وهي تنشر الرّعب بين الأبرياء، وتهدم المنشآت وتهلك الحرث والنّسل.ودين الإسلام الّذي ينشد السّلام ويؤمن به ويحضّ عليه، وينادي بتعميمه، لا يؤمن به إيمان من يتحدّث عنه ويردّده للتّمويه وذرّ الرّماد في الأعين، بل هو عنده عنوان وشعار يردّده المسلمون في العبادة وفي التّحية وفي كلّ آن وفي كلّ مكان.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات