إن لكل شيء نهاية، ونهاية السنة هامة مثل بدايتها، بل قد تكون أهم، ففي النّهاية تتبيّن النّتائج وتتحدّد الحصائل ويمتاز الفائز من الخاسر. وعامة الناس يهتمّون عادة بنهاية السنة الدراسية، كونها تحدد مسار الطّلاب والتّلاميذ ومستقبلهم الدّراسيّ، فهم مهتمون بها مترقبون لها، وكذا أولياؤهم جميعًا، وأغلب النّاس كذلك يهتمّون بنهاية السّنة المالية؛ لِما للمال من أهمّية في حياتهم، وخاصة التّجار وأرباب المال، حيث أنّ نهاية السّنة بالنسبة إليهم محطة حاسمة في نشاطهم الاقتصادي والمالي، يراجعون حساباتهم ويدقّقونها فيها، ويحدّدون قيمة أرباحهم ويجنونها عندها.بيد أنّ كثيرًا من النّاس لا يعلمون أنّ الإيمان له سنته أيضًا، هذه السّنة الّتي يغفل عنها أغلب النّاس، بَلْهَ نهايتها. ذلك أنّ غلبة الرّوح المادية علينا، وهشاشة تديّن الكثيرين منّا، وشيوع أنماط التّدين الظّاهريّ، والتّديّن المغشوش، والتديّن التّقليديّ، والتّدين المناسباتيّ، وجهل الكثيرين بأحكام الدّين، والغفلة الّتي هي فطرة إنسانيّة، وضعف شعورنا بقيمة الوقت.. وغير ذلك من الأسباب جعلتنا نجهل السنّة الإيمانية، ونغفل عن المواسم الإيمانية، ولا نعظّم ما عظّم الله تبارك وتعالى من الأزمان.وإنّ ممّا يجب معرفته والعلم به بعضَ معاني الحكمة الرّبّانية من تعظيم بعض الأوقات: أيّامٍ وليال وشهور. ولا ريب أنّ الحِكم وراء ذلك تقصر عنها العقولُ البشرية، ويصغر دونها العلمُ الإنسانيّ، ولكن نحاول إن كنّا عاجزين عن إدراك أطراف أغوارها أن نستشف القليل من أنوارها، والّتي منها: أنّها تغرس في نفس المؤمن تعظيم الوقت، والشّعور بقيمته، والاهتمام به، وحسن الاستفادة منه، والحرص عليه، وعلى استغلاله، والشّعور بتفاوت الأوقات وكلّ الأمور... الخ. {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاء}. وهذه حكمة غالية وغاية عالية، ذلك أنّ إعطاء الوقت قيمته وقدره وحقّه اهتمامًا وشعورًا واستغلالًا واستفادة من معالم التّحضّر، فما الحضارة إلّا حسن استفادة من الوقت، كما يقول الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله: “كلّ حضارة تستلزم رأسمال أوليّ مكون من الإنسان والتّراب والوقت، فهي مركّب من هذه العناصر الثّلاثة الأساسيّة”. والإنسان والتّراب موجودان واقعيًّا في كلّ مكان من أصقاع الأرض كما هو معلوم، فبقي عنصر الوقت هو العنصر الحاسم في هذا المركّب، إذ يمكننا القول بلا تثريب علينا: إنّ الشّعوب المتحضّرة هم مجموعات من النّاس في إقليم أو قطعة من الأرض (تراب) أحسنوا استغلال الوقت والاستفادة منه، والشّعوب المتخلّفة هم مجموعات من النّاس في إقليم أو قطعة من الأرض (تراب) أحسنوا تضييع الوقت وهدره! وهذا المعنى يزيدنا فهمًا لأهمية المواسم الدّينية، وأهمية التّذكير بها، وأهمية استغلالها لغرس القيم المتعلّقة بالوقت وإصلاحها.وعودٌ على بدء أقول: إنّ شهر شعبان شهر جليل اختاره الله جلّت حكمته ليكون نهاية السّنة الإيمانية، حيث تُعرَض أعمال بني آدم في عامهم المنصرم على الله تبارك وتعالى -وهو أعلم سبحانه-، كما صحّ ذلك في الحديث، عن أسامةَ بنِ زيد رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصوم الأيّام، يسرد حتّى يقال: لا يفطر، ويفطر الأيّام حتّى لا يكاد أن يصوم إلّا يومين من الجمعة، إن كانا في صيامه وإلّا صامهما. ولم يكن يصوم من شهر من الشّهور ما يصوم من شعبان، فقلتُ: يا رسول الله، إنّك تصوم لا تكاد أن تفطر، وتفطر حتّى لا تكاد أن تصوم إلّا يومين إن دخلا في صيامك وإلّا صمتهما. قال: «أيّ يومين؟». قال: قلت: يوم الاثنين ويوم الخميس. قال: «ذانك يومان تعرض فيهما الأعمال على ربّ العالمين، وأحبّ أن يعرض عملي وأنا صائم». قال: قلت: ولم أرك تصوم من شهر من الشّهور ما تصوم من شعبان؟ قال: «ذاك شهر يَغفل النّاس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر يرفع فيه الأعمال إلى ربّ العالمين، فأحبّ أن يرفع عملي وأنا صائم» [رواه أحمد والنّسائي]، والنّبيّ صلى الله عليه وسلم يصرّح أنّ العِلّة في عدمِ تعظيم هذا الشّهر وغيره من المواسم الرّبّانية والمناسبات الدّينية، وعدمِ الاهتمام لهذا المعنى الجليل الرّهيب، الّذي هو عرض الأعمال على الله عزّ شأنه، هو داء الغفلة «ذاك شهر يغفل النّاس عنه..»، وهو داء عَيَاءٌ عُضال، زاده استشراء الرّوح المادية عياءً فتكًا!إنّ هذا الحديث الشّريف هو الّذي أفادنا أنّ شهر شعبان هو نهاية السّنة الإيمانية بمنطوق لفظه وتصريحه: «.. وهو شهر يرفع فيه الأعمال إلى ربّ العالمين»، أي أعمال السّنة، ولا يكون ذلك إلّا في نهايتها، فيعلّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يجب علينا أن نحرص على ختمها بعمل صالح من أحبّ الأعمال إلى الله تعالى: «.. فأحبّ أن يرفع عملي وأنا صائم»، والصّيام هو العبادة الّتي قال عنها الله عزّ وجلّ في الحديث القدسيّ: «كُلُّ عمل ابنِ آدمَ له إلاّ الصِّيامُ، فإنّه لي»، وهذا من أرقى الأدب في التّعامل مع الله جلّ جلاله، وهو من دقائق معاني العبودية ومن روائع الحكم النّبويّة، ولكن كيف النّجاة من الغفلة؟!إنّ من اللّطائف الدّقيقة وتجلّيات الرّحمة الإلهية الّتي تُظهر عظيم اللّطف الرّبّاني بنا أن جعل بداية السّنة الإيمانية موسمًا جليلًا نبيلًا، هو شهر رمضان المبارك، حتّى تكون البداية على أحسن حال وأفضل، إذ من المعلوم أنّ شهر رمضان بأجوائه الإيمانية يرفع همم النّاس ويرجع بهم إلى ربّهم سبحانه وكتابه وبيوته ودعائه والتّضرّع له، فيرتقي مستوى التزام عموم النّاس بأحكام الشّرع، وترتفع رغبتهم في الطّاعات والمبرّات، وتزداد مسابقتهم للخيرات إلّا الشّقيّ المحروم ولعياذ بالله! ممّا يسهل على أغلب النّاس الانطلاق في السّنة الإيمانية انطلاقة جيّدة إلّا مَن أبى! وكلّ هذا لطفٌ بنا وأخذٌ بأيدينا إلى الطريق المستقيم ونهجِ الفوز المبين، ذلك أنّ مَن صحّت بدايته سَلِمَت نهايته، ومَن سَلِمَت نهايته نَجَا وفاز.* إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات