استفادت ولاية البويرة، خلال الفترة الممتدة من 1999 إلى نهاية السنة الماضية، من 15800 مليار سنتيم، وهو مبلغ كان بإمكانه أن يلحقها بمصاف الولايات ”الأكثر تقدّما”، لو أحسن استغلاله وأزيلت العراقيل والمشاكل التي أعاقت تنفيذ مختلف البرامج المسطرة. أولى أسباب التخلف الذي تعاني منه هذه الولاية، التي لا تبعد عن عاصمة البلاد إلا بـ120 كيلومتر، وقف عندها الوزير الأول، عبد المالك سلال، أثناء زيارته نهاية لإحدى ورشات بناء القطب العمراني المندرج ضمن توسيع عاصمة الولاية، حين لاحظ أن المخطط العمراني المعد لهذا المشروع الذي يتضمن بناء 3372 وحدة سكنية و21 مرفقا عموميا لم تراع فيه قواعد بناء المدن التي تقتضي بناء شوارع واسعة، تتوسطها المساحات الخضراء والمرافق العمومية وفق نسيج عمراني محدد، وقد أمر الوزير الأول بوقف المشروع وإعادة الدراسة الفنية من جديد.ما وقف عنده سلال ليس بالشيء الجديد على هذه الولاية، فلو تجوّل هذا المسؤول في مختلف أحياء البويرة أو إحدى مدنها الأخرى، لاكتشف أن كل الأحياء والمناطق الحضرية التي بنيت بعد الاستقلال جُسّدت وفق مخططات عمرانية تفتقر للانسجام العمراني، ويكفي أن عاصمة الولاية لا تتوفر اليوم على عمران يتوافق مع مظاهر المدن، بدليل أنها تفتقر لوسط المدينة، ومع ذلك لا تزال الجهات المسؤولة على البناء والعمران بالولاية تكرر الأخطاء نفسها. ولعل ما غاب عن علم الوزير الأول هو أن الطريق الحديث الذي سلكه للوصول إلى مكان المشروع المذكور أعيد تعبيده بعد سنة واحدة من شقه، بعدما وُضع بساطه أثناء إنجازه فوق التراب مباشرة، فلم يصمد إلا أسابيع قليلة، ثم أوكلت مهمة إعادة تهيئته لمؤسسة أخرى، رغم تشقّقه عند إحدى الشعاب العابرة لمنطقة الريش التي سُدّت بأكوام التراب بدل وضع جسر، ما يطرح أكثر من سؤال حول مستقبل الطريق.علما أن الكثير من الطرق التي وُضع بها البساط خلال السنوات الأخيرة غزتها الحفر والتشققات، وهي اليوم في أمسّ الحاجة لإعادة تهيئتها بمبالغ مالية إضافية، وهنا يبقى السؤال مطروحا عن سبب غياب أعين الرقابة التي كان من المفروض أن تحاسب المسؤولين عن المشاريع الفاشلة التي استهلكت الملايير من حصة الولاية.ويكفي أن نذكر أن الكثير من المرافق والبنايات أنجزت خلال السنوات الماضية دون رخص للبناء أي بطريقة فوضوية، كما هو الحال بالنسبة للمركز الجامعي وحصة 132 مسكن المندرجة ضمن برنامج البيع بالإيجار التي سُلّمت للمستفيدين خلال سنة 2006، ولم يستلموا إلى غاية اليوم عقود شققهم بسبب عدم تسوية وضعية الوعاء العقاري، فضلا عن توقّف أشغال بناء مقر جديد لبلدية البويرة بعدما تعددت نسبة الإنجاز 70 بالمائة لأسباب قيل إنها تتعلق بنقص الغلاف المالي، فيما ذكرت بعض المصادر أنها تعود لصراع على العقار بين البلدية ووزارة الدفاع، على اعتبار أن المكان كان تابعا للوزارة المذكورة.وبالإضافة إلى عامل سوء التخطيط والتسيير لبعض المشاريع، يضاف مشكل تأخر الإنجاز رغم توفر الاعتمادات المالية، فالعديد من المشاريع بقيت تراوح مكانها لسنوات عديدة، وذلك لأسباب قد تعود لخلل في الدراسة التقنية، وأخرى لسوء اختيار المقاولين، كما هو الشأن بالنسبة لمشروع تهيئة غابة الريش وتحويلها إلى غابة للنزهة وللتسلية التي لم ينجز منها إلا الملعب المعشوشب اصطناعيا، رغم تجاوز المقاول المكلف بالإنجاز المهلة المحددة له بشهور عديدة، وكذا مشروع حديقة ”دنيا” الذي انطلق منذ سنوات، فضلا على إنفاق الملايير على ”نافورات” لم يسل ماؤها إلا يوم تدشينها أو أثناء زيارات أعضاء الحكومة.مشاكل تنظيمية ومالية تعرقل تجسيد المشاريعإضافة إلى سوء التخطيط والتسيير وغياب المتابعة التي لا يمكن حصرها، يشير تقرير أعدته مصالح الولاية إلى أن الكثير من المشاريع المسجلة خلال الفترة المذكورة واجهت جملة من المشاكل التنظيمية والمالية، وأخرى ذات طابع عقاري حالت دون تجسيدها، فقد واجه المشرفون على برنامج السكن الريفي عراقيل تنظيمية تتعلق بعدم السماح للمستفيدين بالبناء العمودي في المناطق التي شملتها عملية مسح الأراضي، ما تسبب في إقصاء عدد كبير من طالبي الإعانات، بالإضافة إلى التأخر في تجسيد برنامج توصيل الكهرباء وعدم مسايرته لبرنامج البناء الريفي.كما يعاني قطاع التعمير من مشكل العقار التابع للخواص إذ لا يمكن استرجاعه لتجديد البنايات القديمة، ويصعب على السلطات العمومية اقتناء تلك الأراضي بسبب الأسعار التعجيزية التي يشترطها الملاك. وفي هذا الصدد يذكر التقرير ذاته أن السلطات العمومية تعذّر عليها إعادة بناء الأحواش والسكنات الهشة التي رحل سكانها بسبب وجود الأراضي التي كانت مشيّدة عليها في حالة ”الشيوع”، فضلا عن العجز الكبير الذي تعاني منه معظم البلديات في مجال التهيئة والتحسين العمراني، ما يستدعي مدّ الولاية بأغلفة مالية إضافية. ويعتبر قطاع الأشغال العمومية من أكثر القطاعات بالولاية تأخرا، بدليل أن تقرير الولاية يشير إلى أن جلّ الطرق البلدية والولائية والوطنية توجد في وضعية متدهورة جدا، بسبب تنوع المناخ وحركة المرور الكثيفة التي يميزها مرور الشاحنات ذات الحمولات الزائدة، فضلا عن نقص مواد الرّدم والمواد المستخرجة من الأودية، ما ساهم في تأخير مشاريع القطاع.أما قطاع الصحة، الذي يشغل بال كل سكان الولاية، فهو لا يزال مريضا بأمراض مزمنة، حيث لم تتعد نسبة استغلاله للغلاف المالي الذي خُصص له في إطار المخطط الخماسي الأخير 12,41 بالمائة، ولم يستهلك سوى نصف المبلغ المرصود له خلال المخطط الخماسي 1999 - 2009، لعل ذلك ما يفسّر سبب نقل المرضى أثناء الحالات الخطيرة إلى مستشفيات الولايات المجاورة، بذريعة نقص مستخدمي شبه الطبي والأطباء المختصين والأجهزة.وفي هذا الشأن يتساءل المتابعون لأوضاع القطاع بالولاية عن أسباب نفور الأطباء المختصين عن العمل بهذه الولاية، وعدم تحفيزهم على العمل بالمؤسسات الاستشفائية العمومية من خلال توفير السكن الوظيفي.أراض زراعية شاسعة غير مستغلة ونقص وسائل التخزينتقدر مساحة الأراضي الفلاحية في البويرة بـ185,960 هكتار تتضمن 13545 هكتار من المساحات المسقية، موزعة على ثلاثة سهول، وهي سهل أغريب بعين بسام الذي تقدر مساحته 2200 هكتار وسهل أمشدالة 1600 هكتار غير المستغل، وسهل الأسنام 5420 هكتار المنتظر أن يدخل الخدمة هذا العام. ولعل اللافت للانتباه في تقرير الولاية أنه يكشف ولأول مرّة زيف تصريحات مسؤولي المصالح الفلاحية، الذين كانوا في كل نهاية موسم الحصاد والدّرس يدّعون أن الولاية حققت مردودا ”خرافيا” في إنتاج الحبوب، حيث سبق لهم أن صرحوا بأن القطاع أنتج خلال سنة أكثر من مليون قنطار، أي أن معدل الإنتاج فاق 45 قنطارا في الهكتار، فيما يصف التقرير المذكور مردود الحبوب بـ«المتوسط”، ويقدّر بـ27 قنطارا في الهكتار، ويصل في أعلى مردود إلى 35 قنطارا في الهكتار. وهو ما يدعو إلى التساؤل عن سبب سكوت الجهات المكلفة بالرقابة أمام سياسة الكذب التي انتهجها مسؤولو قطاع الفلاحة، الذين صرحوا في إحدى المرات بأن الجزائر ستحقق الاكتفاء الذاتي من حيث إنتاج الحبوب، وأن البويرة أنتجت أكثر من مليون قنطار. هذه المصالح التي لم تحرك ساكنا أمام ظاهرة غزو الإسمنت للأراضي الخصبة، فمدينة البويرة توسعت على حساب عشرات الهكتارات من الأراضي الفلاحية، رغم أنها محاطة بهضاب غير صالحة للزراعة.وأثناء زيارة الوزير الأول للمنطقة الصناعية التي أقيمت فوق أراض خصبة، منها ما كانت مزروعة بأشجار الزيتون، مُنع الملاك الأصليون لتلك الأراضي من الوصول إلى سلال بعدما حاولوا إعلامه بالأمر. فضلا عن ذلك، فإن السلطات العمومية تواجه صعوبات في تسيير المساحات المسقية المقدرة بـ9220 هكتار، وذلك بعدما تم حلّ ديوان المساحات المسقية بالولاية بمداولة من المجلس الولائي، فضلا عن العراقيل التي تواجه تسيير 36 حوضا مائيا من قِبل الغرفة الفلاحية بالولاية وكذا نقص قدرات التبريد والتخزين، رغم أن الولاية أنتجت، خلال السنوات الأخيرة، كميات هائلة من مادة البطاطا والطماطم، وواجه المنتجون مشاكل جمّة لتخزين وتسويق منتوجهم.تقرير الولاية يدعو إلى التخلي عن التوزيع المركزي للمشاريعالمتصفح للتقرير العام للولاية، الذي قُدّم للوزير الأول، يلمس أن التطور الوحيد هو التقرير نفسه، حيث لم يكتف بإحصاء الإنجازات فقط مثلما جرت العادة، وإنما تضمن كل النقائص والمشاكل التي تعاني منها مختلف القطاعات، واقترح حلولا تنتقد ضمنيا طريقة التوزيع المركزي للمشاريع والاعتمادات المالية. ففي الاقتراحات المتعلقة بالطابع المالي طالب التقرير بمنح الأغلفة المالية الموجهة إلى البرامج القطاعية إلى الوالي الذي يتكفل بترتيب الأولويات، وتسجيل المشاريع حسب الحاجة والخصوصيات المحلية، مع الأخذ في الحسبان أثناء تقدير الأغلفة خصوصية كل ولاية بمراعاة الموقع وصعوبة التضاريس بدل توحيد الأغلفة المالية الموجهة للمشاريع وطنيا ما يحول دون تجسيدها ميدانيا، وتمكين السلطات المحلية من صرف تلك الأموال بسهولة واستهلاك القروض لفائدة القطاعات التي تسجل وتيرة إنجاز سريعة.وفيما يخص المشاريع التنموية للبلديات، يقترح التقرير مراعاة الاحتياجات الحقيقية وخصوصية كل بلدية ومستوى التنمية في كل ولاية، فضلا عن دعم المديريات المكلفة بالإنجاز بالوسائل البشرية والمادية الملائمة وتعيين مستخدمين ومؤطرين دائمين، لضمان حسن تسيير الهياكل التي تدخل الخدمة بمجرد إنهاء المشاريع، حتى لا يستمر الحال المتردي لهياكل كما هو الحال بالنسبة لبعض المرافق التابعة لقطاعات الثقافة والشباب والصحة. وطالب التقرير باستحداث تدابير تحفيزية لمؤسسات الإنجاز لتشجيعها على التكفل بالمشاريع المبرمجة في المناطق المعزولة والنائية. ولمعالجة مشاكل العقار، دعا التقرير إلى مراجعة مقاييس التقييم المعدّ من قِبل مصالح أملاك الدولة للأراضي المنزوعة من أجل المنفعة العامة وتكييفها مع واقع سوق العقار، لتفادي المعارضات المسجلة من قِبل الملاك والتي أدت إلى تأخر المشاريع، وتوسيع إجراء نزع الملكية على كل المشاريع التي تنجزها الدولة أو أجهزتها، مع تعويض كل الأراضي التي تعبرها مختلف شبكات المنفعة العامة، وذلك للحدّ من المشاكل التي يحدثها ملاك الأراضي، وإعداد نص تنظيمي يحدد آجالا لملاك الأراضي الموجودة في الشيوع بعد هدم السكنات الهشة من أجل استغلالها من قِبل ملاكها أو مصالح الدولة.وفيما يخص توسيع مدينة البويرة من الجهة الشمالية طالب التقرير بتسهيل عملية اقتطاع المساحة المحددة، قصد إطلاق مختلف البرامج السكنية والهياكل العمومية المرافقة لها ورفع الاعتمادات المالية المخصصة لها، بما يسمح بتجسيد البرنامج المسطر في آجاله المحددة.في الأخير، نشير إلى الوزير الأول منح لهذه الولاية ميزانية وصفها بـ«الاستدراكية” تقدر بـ3145 مليار سنتيم يأمل سكان البويرة أن توجه لتحسين ظرفهم المعيشية، وأن لا تنفق على مشاريع تنجز ثم تعاد أو تبقى مهملة، مثلما كان يحدث في السابق. فهل ستستدرك البويرة ما ضيّعته من برامج ومشاريع؟ سؤال ستجيب عنه السنوات القادمة.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات