+ -

 سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أيّ النّاس أفضل؟ قال: “كلّ مخموم القلب صدوق اللّسان”، قالوا: صدوق اللّسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: “هو التّقيّ النّقيّ، لا إثم فيه ولا بغي ولا غلّ ولا حسد”.سلامة الصّدر من أعظم الخصال وأشرف الخلال، وهي خلّة لا يقوى عليها إلّا فحول الرّجال، ولذلك كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: “اللّهمّ إنّي أسألُك الثّبات في الأمر، والعزيمة على الرّشد، وأسألُك شكر نعمتك وحُسن عبادتك، وأسألك قلبًا سليمًا ولسانًا صادقًا، وأسألُك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شرّ ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم”، وكان من دعائه أيضًا: “ربّ أعِنّي ولا تُعِن عليّ، وانْصُرني ولا تَنصُر عليّ، وامْكُر لي ولا تَمكُر عليّ، واهْدِني ويَسِّر الهدى إليّ، وانْصُرني على مَن بغى عليّ، ربّ اجعلني لك شكّارًا، لك ذكّارًا، لك رهّابًا، لك مِطواعًا، إليك مُخْبِتًا، لك أوّاهًا مُنيبًا، ربّ تقبّل توبتي، واغسل حوبتي، وأجِب دعوتي، وثبِّت حُجّتي، واهْد قلبي وسَدِّد لساني، واسْلُل سخيمة قلبي”.فسلامة الطوية خلّة عظيمة ومنقبة جليلة، قليل هم الّذين يتحلّون بها؛ لأنّه عسير على النّفس أن تتجرّد من حظوظها، وأن تتنازل عن حقوقها لغيرها، هذا مع ما يقع من كثير من النّاس من التّعدّي والظّلم، فإذا قابل المرء ظلم النّاس وجهلهم وتعديهم بسلامة صدر، ولم يقابل إساءتهم بإساءة، ولم يحقد عليهم، نال مرتبة عالية من الأخلاق الرّفيعة والسّجايا النّبيلة، وهو عزيز ونادر في النّاس، ولكنّه يسير على من يسّره الله عليه: {وَمَا يُلَقَّاهَا إلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}.وسلامة الطوية ونقاء السريرة صفة من صفات أهل الجنّة: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ}، وممّا يعين على هذه الخلّة العظيمة الإخلاص، وهو الرّغبة فيما عند الله تعالى والزّهد في الدّنيا، ورضا العبد بما قسم الله تعالى له، قال ابن القيم رحمه الله: (إنّ الرّضى يفتح للعبد باب السّلامة، فيجعل قلبه سليمًا نقيًا من الغشّ والدَّغَل والغِلّ، ولا ينجو من عذاب الله إلّا من أتى الله بقلب سليم كذلك، وتستحيل سلامة القلب مع السّخط وعدم الرّضى، وكلّما كان العبد أشدّ رضى كان قلبه أسلم).فمن تدبّر كتاب الله تعالى علم ما أعدّه الله تعالى لمن سلمت صدورهم، وقد وصف الله التّابعين بإحسان بأن من دعائهم ألّا يجعل في قلوبهم غلًا للّذين آمنوا: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آَمَنُوا}. وممّا يعين على سلامة الصّدر ونقاء السّريرة أيضًا قراءة القرآن وتدبّره، فهو الدّواء لكلّ داء، والمحروم من لم يتداو بكتاب ربّه ومولاه، قال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ}، وكذا تذكّر الحساب والعقاب: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}، فمن أيقن أنّه محاسب ومسئول عن كلّ شيء هانت الدّنيا عليه، وزهد بما فيها، وفعل ما ينفعه عند ربّه، ومن الأسباب الدّعاء، للنّفس وللأقارب والمسلمين عمومًا.ومن الأسباب المعينة كذلك حُسن الظّنّ، وحمل الكلمات والمواقف على أحسن المحامل، قال الفاروق رضي الله عنه: لا تحمل أخاك على المحمل السّيّئ وأنت تجد له في الخير سبعين محملًا، ومنها إفشاء السّلام: “لا تدخلون الجنّة حتّى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتّى تحابوا، أَوَلاَ أدُلُّكُم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السّلام بينكم”. ومن الأسباب المعينة محبّة الخير للمسلمين، قال ابن العربي المالكي رحمه الله: (لا يكون القلب سليمًا إذا كان حقودًا حسودًا معجبًا متكبّرًا).وهذه صور رائعة من سلامة الصّدر عند أهل الرّعيل الأوّل: قال سفيان بن دينار: قلت لأبي بشير (وكان من أصحاب عليّ): أخبرني عن أعمال من كان قبلنا؟ قال: كانوا يعملون يسيرًا ويؤجرون كثيرًا، قلت: ولم ذاك؟ قال: لسلامة صدورهم. وقال زيد بن أسلم: دُخل على أبي دُجانة رضي الله عنه وهو مريض وكان وجهه يتهلّل، فقيل له: ما لوجهك يتهلّل؟ فقال: ما من عملي شيء أوثق عندي من اثنتين، أمّا إحداهما: فكنتُ لا أتكلّم فيما لا يعنيني، وأمّا الأخرى: فكان قلبي للمسلمين سليمًا.قال ابن القيم ما رأيتُ أحدًا أجمع لخصال الصّفح والعفو وسلامة الصّدر من ابن تيمية، فقد جاءه يومًا أحد تلاميذه فبشّره بموت أكبر أعدائه الّذين آذوه، فنهره وغضب عليه، واسترجع وقام من فوره، فعزَّى أهل الميت، وقال لهم: إنّي لكم مكانه. فسلامة الصّدر ليست سذاجة وضعفًا، بل هي قوّة إيمان، ونقاء قلب، وصفاء سريرة، ودليل إخلاص، وإرادة خير للخليقة، والله وليّ التّوفيق.* إمام مسجد عمر بن الخطّاب، بن غازي - براقي

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات